لكن يجب أن يعلم أن هذه الأمور والحوادث وأن أنكرتها العادة واستبعدتها الا أنها ليست أمورا مستحيلة بالذات بحيث يبطلها العقل الضروري كما يبطل قولنا لايجاب والسلب يجتمعان معا ويرتفعان معا من كل جهة وقولنا الشئ يمكن أن يسلب عن نفسه وقولنا: لواحد ليس نصف الاثنين وأمثال ذلك من الأمور الممتنعة بالذات كيف؟ وعقول جم غفير من المليين منذ أعصار قديمة تقبل ذلك وترتضيه من غير انكار ورد ولو كانت المعجزات ممتنعه بالذات لم يقبلها عقل عاقل ولم يستدل بها على شئ ولم ينسبها أحد إلى أحد.
على أن أصل هذه الأمور أعني المعجزات ليس مما تنكره عادة الطبيعة بل هي مما يتعاوره نظام المادة كل حين بتبديل الحي إلى ميت والميت إلى الحي وتحويل صورة إلى صورة وحادثة إلى حادثة ورخاء إلى بلاء وبلاء إلى رخاء، وإنما الفرق بين صنع العادة وبين المعجزة الخارقة هو أن الأسباب المادية المشهودة التي بين أيدينا إنما تؤثر أثرها مع روابط مخصوصة وشرائط زمانية ومكانية خاصة تقضي بالتدريج في التأثير، مثلا العصا وإن أمكن أن تصير حية تسعى والجسد البالي وإن أمكن أن يصير إنسانا حيا لكن ذلك إنما يتحقق في العادة بعلل خاصة وشرائط زمانية ومكانية مخصوصة تنتقل بها المادة من حال إلى حال وتكتسي صورة بعد صورة حتى تستقر وتحل بها الصورة الأخيرة المفروضة على ما تصدقه المشاهدة والتجربة لا مع أي شرط اتفق أو من غير علة أو بإرادة مريد كما هو الظاهر من حال المعجزات والخوارق التي يقصها القرآن.
وكما أن الحس والتجربة الساذجين لا يساعدان على تصديق هذه الخوارق للعادة كذلك النظر العلمي الطبيعي، لكونه معتمدا على السطح المشهود من نظام العلة والمعلول الطبيعيين، أعني به السطح الذي يستقر عليه التجارب العلمي اليوم والفرضيات المعللة للحوادث المادية.
إلا أن حدوث الحوادث الخارقة للعادة إجمالا ليس في وسع العلم إنكاره والستر عليه، فكم من أمر عجيب خارق للعادة يأتي به أرباب المجاهدة وأهل الارتياض كل يوم تمتلي به العيون وتنشره النشريات ويضبطه الصحف والمسفورات بحيث لا يبقى لذي لب في وقوعها شك ولا في تحققها ريب.