فإذا عرفت ما ذكرنا وهو حقيقة قرآنية يعطيها التعليم الإلهي كما مر، ثم تدبرت في الآيات الشريفة التي في المورد وجدت أن القرآن يستند إلى القضاء المحتوم والكتاب المحفوظ في إصلاح بعض الأخلاق دون بعض.
فما كان من الافعال أو الأحوال والملكات يوجب استنادها إلى القضاء والقدر إبطال حكم الاختيار فإن القرآن لا يستند إليه، بل يدفعه كل الدفع كقوله تعالى:
(وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليه آبائنا والله أمرنا بها قل ان الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون) الأعراف - 28.
وما كان منها يوجب سلب استنادها إلى القضاء إثبات استقلال اختيار الانسان في التأثير، وكونه سببا تاما غير محتاج في التأثير، ومستغنيا عن غيره، فإنه يثبت استناده إلى القضاء ويهدي الانسان إلى مستقيم الصراط الذي لا يخطئ بسالكه، حتى ينتفي عنه رذائل الصفات التي تتبعه كإسناد الحوادث إلى القضاء كي لا يفرح الانسان بما وجده جهلا، ولا يحزن بما فقده جهلا كما في قوله تعالى: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) النور - 33، فإنه يدعو إلى الجود بإسناد المال إلى إيتاء الله تعالى، وكما في قوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون) البقرة - 3، فإنه يندب إلى الانفاق بالاستناد إلى أنه من رزق الله تعالى، وكما في قوله تعالى: فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) الكهف - 7، نهى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن والغم استنادا إلى أن كفرهم ليس غلبة منهم على الله سبحانه بل ما على الأرض من شئ أمور مجعولة عليها للابتلاء والامتحان إلى غير ذلك.
وهذا المسلك أعني الطريقة الثانية في إصلاح الأخلاق طريقة الأنبياء، ومنه شئ كثير في القرآن، وفيما ينقل إلينا من الكتب السماوية.
وهيهنا مسلك ثالث مخصوص بالقرآن الكريم لا يوجد في شئ مما نقل إلينا من الكتب السماوية، وتعاليم الأنبياء الماضين سلام الله عليهم أجمعين، ولا في المعارف المأثورة من الحكماء الإلهيين، وهو تربية الانسان وصفا وعلما باستعمال علوم ومعارف لا يبقى معها موضوع الرذائل، وبعبارة أخرى إزالة الأوصاف الرذيلة بالرفع لا بالدفع.