إحداهما: أنه يبتدي منه التأثير، وينتهي إليه السببية، فهو المالك للخلق والايجاد على الاطلاق، وجميع العلل والأسباب أمور متخللة متوسطة بينه وبين غيره لنشر رحمته التي لا تنفد ونعمته التي لا تحصى إلى خلقه وصنعه.
والثانية: أنه تعالى تفضل علينا بالدنو في حين علوه فشرع الدين ووضع فيه أحكاما من أوامر ونواهي وغير ذلك وتبعات من الثواب والعقاب في الدار الآخرة وأرسل رسلا مبشرين ومنذرين فبلغوه أحسن تبليغ وقامت بذلك الحجة وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته.
أما من الجهة الأولى: وهي النظر إليه من جهة التكوين فانطباق معنى الشفاعة على شأن الأسباب والعلل الوجودية المتوسطة واضح لا يخفى، فإنها تستفيد من صفاته العليا من الرحمة والخلق والاحياء والرزق وغير ذلك إيصال أنواع النعم والفضل إلى كل مفتقر محتاج من خلقه، وكلامه تعالى أيضا يحتمل ذلك، كقوله تعالى: (له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) البقرة - 255، وقوله (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم إستوى على العرش يدبر الامر ما شفيع إلا من بعد إذنه) يونس - 3، فإن الشفاعة في مورد التكوين ليست إلا توسط العلل والا سباب بينه وبين مسبباتها في تدبير أمرها وتنظيم وجودها وبقائها فهذه شفاعة تكوينية.
وأما من الجهة الثانية وهى النظر إليه من جهة التشريع فالذي ينبغي أن يقال:
أن مفهوم الشفاعة على ما سبق من التحليل يصح صدقه في مورده ولا محذور في ذلك وعليه ينطبق قوله تعالى: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له) الرحمن ورضي له قولا) طه - 109، وقوله: (لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) السبأ - 23، وقوله (لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) النجم - 26، وقوله: (ولا يشفعون إلا لمن إرتضى) الأنبياء - 28، وقوله: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة الا من شهد بالحق وهم يعلمون) الزخرف - 86، فإن الآيات كما ترى تثبت الشفاعة بمعنى الشافعية لعدة من عباده من الملائكة والناس من بعد الاذن والارتضاء، فهو تمليك ولله الملك وله الامر فلهم أن يتمسكوا برحمته وعفوه