ظل مملكة فلا تستزيلنه. قارب الناس مجاملة من نفسك، وباعدهم مسامحة عن عدوك، واقصد إلى الجميل ازدراعا لغدك، وتنزه بالعفاف صونا لمروءتك، وتحسن عندي بما قدرت عليه. احذر لا تسرعن الألسنة عليك، ولا تقبحن الأحدوثة عنك، وصن نفسك صون الدرة الصافية، وأخلصها إخلاص الفضة البيضاء، وعاتبها معاتبة الحذر المشفق، وحصنها تحصين المدينة المنيعة، لا تدعن أن ترفع إلى الصغير فإنه يدل على (1) الكبير، ولا تكتمن عنى الكبير فإنه ليس بشاغل عن الصغير. هذب أمورك ثم القنى بها، وأحكم أمرك ثم راجعني فيه، ولا تجترئن على فامتعض، ولا تنقبضن منى فأتهم، ولا تمرضن ما تلقاني به ولا تخدجنه (2)، وإذا أفكرت فلا تجعل، وإذا كتبت فلا تعذر، ولا تستعن بالفضول فإنها علاوة على الكفاية، ولا تقصرن عن التحقيق فإنها هجنة بالمقالة، ولا تلبس كلاما بكلام، ولا تبعدن معنى عن معنى.
وأكرم لي كتابك عن ثلاث: خضوع يستخفه، وانتشار يهجنه، ومعان تعقد به. واجمع الكثير مما تريد في القليل مما تقول وليكن بسطة كلامك على كلام السوقة كبسطة الملك الذي تحدثه على الملوك. لا يكن ما نلته عظيما، وما تتكلم به صغيرا، فإنما كلام الكاتب على مقدار الملك، فاجعله عاليا كعلوه، وفائقا كتفوقه، فإنما جماع الكلام كله خصال أربع: سؤالك الشئ، وسؤالك عن الشئ وأمرك بالشئ وخبرك عن الشئ، فهذه الخصال دعائم المقالات، إن التمس إليها خامس لم يوجد، وإن نقص منها واحد لم يتم، فإذا أمرت فأحكم، وإذا سألت فأوضح، وإذا طلبت فأسمح، وإذا أخبرت فحقق، فإنك إذا فعلت ذلك أخذت بجراثيم القول كله، فلم يشتبه عليك واردة، ولم تعجزك صادره. أثبت في دواوينك ما أخذت، وأحص فيها ما أخرجت، وتيقظ لما تعطى، وتجرد لما تأخذ ولا يغلبنك النسيان عن الإحصاء، ولا الأناة عن التقدم، ولا تخرجن .