لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما، وأي حاجة إلى هذا التقدير الطريف الذي لا يشعر الكلام به، ومراده عليه السلام ظاهر، وهو أن نعمة جلت لكثرتها أن يحصيها عاد ما، هو نفي لمطلق العادين من غير تعرض لعاد مخصوص.
* * * قال الراوندي: فأما قوله: " لا يدركه بعد الهمم "، فالادراك هو الرؤية والنيل والإصابة، ومعنى الكلام: الحمد لله الذي ليس بجسم ولا عرض، إذ لو كان أحدهما لرآه الراؤون إذا أصابوه، وأنما خص " بعد الهمم " بإسناد نفي الادراك " وغوص الفطن " بإسناد نفي النيل لغرض صحيح، وذلك أن الثنوية (1) يقولون بقدم النور والظلمة، ويثبتون النور جهة العلو، والظلمة جهة السفل، ويقولون: إن العالم ممتزج منهما، فرد عليه السلام عليهم بما معناه: إن النور والظلمة جسمان، والأجسام محدثة، والبارئ تعالى قديم.
* * * ولقائل أن يقول: إنه لم يجر للرؤية ذكر في الكلام، لأنه عليه السلام لم يقل: الذي لا تدركه العيون ولا الحواس، وإنما قال: " لا يدركه بعد الهمم "، وهذا يدل على أنه إنما أراد أن العقول لا تحيط بكنهه وحقيقته.
وأيضا فلو سلمنا أنه إنما نفى الرؤية، لكان لمحاج أن يحاجه فيقول له: هب أن الامر كما تزعم، ألست تريد بيان الامر الذي لأجله خصص بعد الهمم بنفي الادراك، وخصص غوص الفطن بنفي النيل! وقلت: إنما قسم هذا التقسيم لغرض صحيح، وما رأيناك أوضحت هذا الغرض، وإنما حكيت مذهب الثنوية، وليس يدل مذهبهم على وجوب تخصيص بعد الهمم بنفي الادراك دون نفي النيل، ولا يوجب تخصيص غوص الفطن