الحكمة في تخصيصه بالتخلي فيه أن المقيم فيه كان يمكنه رؤية الكعبة فيجتمع لمن يخلو فيه ثلاثة عبادات الخلوة والتعبد والنظر إلى البيت (قلت) وكأنه مما بقي عندهم من أمور الشرع على سنن الاعتكاف وقد تقدم أن الزمن الذي كان يخلو فيه كان شهر رمضان وأن قريشا كانت تفعله كما كانت تصوم عاشوراء ويزاد هنا أنهم انما لم ينازعوا النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء مع مزيد الفضل فيه على غيره لان جده عبد المطلب أول من كان يخلو فيه من قريش وكانوا يعظمونه لجلالته وكبر سنه فتبعه على ذلك من كان يتأله فكان صلى الله عليه وسلم يخلو بمكان جده وسلم له ذلك أعمامه لكرامته عليهم وقد تقدم ضبط حراء وإن كان الأفصح فيه كسر أوله وبالمد وحكى تثليث أوله مع المد والقصر وكسر الراء والصرف وعدمه فيجتمع فيه عدة لغات مع قلة أحرفه ونظير قباء لكن الخطابي جزم بان فتح أوله لحن وكذا ضمه وكذا قصره وكسر الراء وزاد التميمي ترك الصرف وقال الكرماني إن كان الذي كسر الراء أراد الإمالة فهو سائغ (قوله الليالي ذوات العدد) قال الكرماني يحتمل الكثرة إذ الكثير يحتاج إلى العدد وهو المناسب للمقام (قلت) أما كونه المناسب فمسلم وأما الأول فلا لان عادتهم جرت في الكثير أن يوزن وفي القليل أن يعد وقد جزم الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة بأن المراد به الكثرة لان العدد على قسمين فإذا أطلق أريد به مجموع القلة والكثرة فكأنها قالت ليالي كثيرة أي مجموع قسمي العدد وقال الكرماني أختلف في تعبده صلى الله عليه وسلم بماذا كان يتعبد بناء على أنه هل كان متعبدا بشرع سابق أولا والثاني قول الجمهور ومستندهم أنه لو وجد لنقل ولأنه لو وقع لكان فيه تنفير عنه وبماذا كان يتعبد قيل بما يلقى إليه من أنوار المعرفة وقيل بما يحصل له من الرؤيا وقيل بالتفكر وقيل باجتناب رؤية ما كان يقع من قومه ورجح الآمدي وجماعة الأول ثم اختلفوا في تعيينه على ثمانية أقوال آدم أو نوح أو إبراهيم أو موسى أو عيسى أو أي شريعة أو كل شريعة أو الوقف قوله فتزوده في رواية الكشميهني بحذف الضمير وقوله لمثلها تقدم في بدء الوحي أن الضمير لليالي ويحتمل أن يكون للمرة أو الفعلة أو الخلوة أو العبادة ورجح شيخنا البلقيني ان الضمير للسنة فذكر من رواية ابن إسحاق كان يخرج إلى حراء في كل عام شهرا من السنة يتنسك فيه ويطعم من جاءه من المساكين قال وظاهره أن التزود لمثلها كان في السنة التي تليها لا لمدة أخرى من تلك السنة وقد كنت قويت هذا في التفسير ثم ظهر لي بعد ذلك أن مدة الخلوة كانت شهرا كان يتزود لبعض ليالي الشهر فإذا نفذ ذاك الزاد رجع إلى أهله فتزود قدر ذلك من جهة أنهم لم يكونوا في سعة بالغة من العيش وكان غالب زادهم اللبن واللحم وذلك لا يذخر منه كفاية الشهور لئلا يسرع إليه الفساد ولا سيما وقد وصف بأنه كان يطعم من يرد عليه (قوله حتى فجئه الحق) حتى هنا على بابها من انتهاء الغاية أي انتهى توجهه لغار حراء بمجئ الملك فترك ذلك وقوله فجئة بفتح الفاء وكسر الجيم ثم همز أي جاءه الوحي بغتة قاله النووي قال فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متوقعا للوحي وفي إطلاق هذا النفي نظر فان الوحي كان جاءه في النوم مرارا قاله شيخنا البلقيني وأسنده إلى ما ذكره ابن إسحاق عن عبيد بن عمير أنه وقع له في المنام نظير ما وقع له في اليقظة من الغط والامر بالقراءة وغير ذلك انتهى وفي كون ذلك يستلزم وقوعه في اليقظة حتى يتوقعه نظر فالأولى ترك الجزم بأحد الامرين وقوله الحق قال الطيبي أي أمر الحق وهو الوحي أو رسول الحق وهو جبريل وقال
(٣١٢)