وأبو حارثة (1) بن علقمة، وكان أسقفهم وامامهم، وصاحب مدارسهم، وكان رجلا من العرب من بني بكر بن وائل، ولكنه تنصر فعظمته الروم وملوكها وشرفوه ، وبنوا له الكنائس ومولوه وأخدموه، لما علموه من صلابته في دينهم، وقد كان يعرف أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشأنه وصفته بما علمه من الكتب المتقدمة، ولكنه حمله جهله على الاستمرار في النصرانية لما رأى من تعظيمه ووجاهته عند أهلها.
فتكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع أبي حارثة (2) بن علقمة والعاقب عبد المسيح، وسألهما وسألاه، ثم إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد أن تكلم مع هذين الحبرين منهم دعاهم (3) إلى الاسلام، فقالوا: قد أسلمنا، فقال: كذبتم انه يمنعكم من الاسلام ثلاثة أشياء: عبادتكم الصليب، وأكلكم الخنزير، وقولكم ان لله ولدا، فقالوا: هل رأيت ولدا بغير أب؟ فمن أبو عيسى؟ فأنزل الله تعالى (ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) الآية.
فلما نزلت هذه الآية مصرحة بالمباهلة دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفد نجران للمباهلة، وتلا عليهم الآية، فقالوا: حتى ننظر في أمرنا ونأتيك غدا، فلما خلا بعضهم ببعض، قالوا للعاقب صاحب مشورتهم: ما ترى من الرأي؟ فقال: والله لقد عرفتم يا معاشر النصارى أن محمدا نبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم (4)، ولله ما لاعن قوم قط نبيا (5) الا هلكوا عن آخرهم، فاحذروا كل الحذر أن تكون آفة الاستئصال منكم، وان أبيتم الا الف دينكم والإقامة عليه، فوادعوا الرجل وأعطوه الجزية، ثم انصرفوا إلى مقركم.