فلما دخلنا وأبي أمامي يقدمني عليه بدأه وأنا خلفه على يد أبي (1) حتى حاذيناه فنادى أبي: يا محمد ارم مع أشياخ قومك الغرض وإنما أراد أن يهتك بأبي وظن أنه يقصر ويخطئ، ولا يصيب إذا رمى، فيشتفي منه بذلك، فقال له أبي: قد كبرت عن الرمي فان رأيت إن تعفيني فقال: وحق من أعزنا بدينه ونبيه محمد صلى الله عليه وآله لا أعفيك ثم أومى إلى شيخ من بني أمية أن أعطه قوسك.
فتناول أبي عند ذلك قوس الشيخ ثم تناول منه سهما فوضعه في كبد القوس ثم انتزع ورمى وسط الغرض فنصبه فيه، ثم رمى فيه الثانية فشق فواق سهمه إلى نصله، ثم تابع الرمي حتى شق تسعة أسهم بعضها في جوف بعض، وهشام يضطرب في مجلسه، فلم يتمالك أن قال: أجدت يا أبا جعفر! وأنت أرمى العرب والعجم كلا زعمت أنك قد كبرت عن الرمي، ثم أدركته ندامة على ما قال، وكان هشام لم يكن أحدا قبل أبي ولا بعده في خلافته، فهم به وأطرق إطراقة يرتوي فيه رأيا، وأبي واقف بحذاه. مواجها له، وأنا وراء أبي.
فلما طال وقوفنا بين يديه غضب أبي فهم به، وكان أبي عليه وعلى آبائه السلام إذا غضب نظر إلى السماء نظر غضبان يتبين للناظر الغضب في وجهه، فلما نظر هشام إلى ذلك من أبي قال له: يا محمد اصعد! فصعد أبي إلى سريره وأنا أتبعه فلما دنى من هشام قام إليه فاعتنقه وأقعده عن يمينه، ثم اعتنقني وأقعدني عن يمين أبي، ثم أقبل على أبي بوجهه فقال له: يا محمد لا تزال العرب والعجم تسودها قريش ما دام فيهم مثلك، لله درك من علمك هذا الرمي، وفي كم تعلمته؟
فقال له أبي: قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه فتعاطيته أيام حداثتي ثم تركته فلما أراد أمير المؤمنين مني ذلك عدت فيه.
فقال له: ما رأيت مثل هذا الرمي قط مذ عقلت، وما ظننت إن في الأرض