يغرنكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته وجبن قلبه، فنصب الدين فخا لها، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرام اقتحمه.
وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام فرويدا لا يغرنكم، فإن شهوات الخلق مختلفة، فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرما.
فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويدا لا يغرنكم، حتى تنظروا ما عقده عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع، ثم لا يرجع إلى عقل متين، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله.
فإذا وجدتم عقله متينا فرويدا لا يغركم، حتى تنظروا أمع هواه يكون على عقله، أو يكون مع عقله على هواه؟ وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها، فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة بترك الدنيا للدنيا، ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة، فيترك ذلك أجمع طلبا للرئاسة، حتى إذا قيل له اتق الله، أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد!
فهو يخبط خبط عشواء، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه! فهو يحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله، لا يبالي بما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد يتقى من أجلها، فأولئك الذين غضب الله عليهم، ولعنهم، وأعد لهم عذابا مهينا.
ولكن الرجل كل الرجل نعم الرجل، هو الذي جعل هواه تبعا لأمر الله، وقواه مبذولة في رضى الله، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عز الأبد من العز في الباطل، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد، وأن كثير ما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا زوال.. فذلكم الرجل نعم الرجل، فبه فتمسكوا، وبسنته فاقتدوا، وإلى ربكم به فتوسلوا، فإنه لا ترد له دعوة، ولا تخيب له طلبة " (1).