ومن ذلك قوله تعالى في سورة البقرة 282: (أن تضل إحديهما فتذكر إحديهما الأخرى) ولم تقم قرينة على أن المراد هاهنا بالضلال المدعو به هو الضلال عن الله وسبيل الحق، بل إن قرينة العقل قاطعة بأن المراد منه غير هذا، بل لو صدر هذا الكلام والدعاء من سائر الأتقياء المحبين للخير وصلاح العباد وقلة الفساد واهتداء الخلق فضلا عن الرسل لكان صدوره منهم قرينة على إرادة غير المعنى المدعى.
وأما دعاؤه على كفار قومه بالهلاك، كما حكاه الله جل شأنه في سورة نوح 27 (وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) 28 (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا).
فقد أبدى وجهه وحكمته لما علمه من عند الله في شأنهم بالعلم النبوي من سوء عاقبتهم، فكان من الحكمة والوظيفة النبوية أن يدعو عليهم كما اقتضت الحكمة الإلهية إهلاكهم بالطوفان.
وأما ما حكاه الله في أمره في سورة هود بقوله تعالى 47 (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين) 48 (قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم أني أعظك أن تكون من الجاهلين) فإنه غير قادح بمقامه النبوي ووظيفة رسالته أصلا، فإن غاية ما هناك سؤاله عن وجه الحكمة في غرق ولده مع سبق وعد الله له بنجاة أهله معترفا في السؤال لله بأنه أحكم الحاكمين وأن وعده الحق، فأبان الله له وجه الحكمة بأن الموعود بنجاتهم هم المؤمنون من أهله الذين يحسن أن يضافوا إليه لاهتدائهم بهداه، وأن ولده الغريق ليس من أهله الموعود بنجاتهم، أو أنه لا يليق أن يعد من أهل بيته لأنه عمل غير صالح ليس على هدى أبيه، ثم وعظه الله على سؤاله عن الحكمة لأن الأولى بعلو مقامه هو التسليم والتفويض لحكمة الله إجمالا لا سيما مع عرفانه بأن الله أحكم الحاكمين، فأناب إلى الله من فعله خلاف الأولى، وخاف الانحطاط به عن مراتب الصديقين ومقامات المقربين، وقال كما حكاه الله عنه 49: (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإن لا تغفر لي وترحمني أكن من