المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة - السيد شرف الدين - الصفحة ٦٦
وما أخر، وما أسر وما أعلن حتى يرضى. (1)
(١) قال (رحمه الله): بخ بخ، هنيئا لمن نال من أئمة الهدى بعض ذلك، وأنت تعلم أنه عليه السلام لم يبتهل بالدعاء للكميت هذا الابتهال إلا لما دل عليه بيته هذا من معرفته بحقيقة الحال، وقد أكثر الشعراء من نظم هذا المعنى، فنظمه المهيار في قصيدته اللامية، وقبل ذلك نظمه الشريف الرضي فقال:
بنى لهم الماضون أساس هذه * فعلوا على أساس تلك القواعد إلى آخر ما قال.
وكأن سيدة نساء عصرها (زينب) عليها السلام أشارت إلى هذا المعنى بقولها مخاطبة يزيد: وسيعلم من سول لك، ومكنك من رقاب المسلمين.
بل أشار إليه معاوية، إذ كتب إليه محمد بن أبي بكر يلومه في تمرده على أمير المؤمنين عليه السلام، ويذكر له فضله وسابقته فكتب له معاوية في الجواب ما يتضمن الإشارة إلى المعنى الذي نظمه الكميت، فراجع ذلك الجواب في كتاب " صفين " لنصر بن مزاحم أو " شرح النهج " الحديدي أو " مروج الذهب " للمسعودي.
وقد اعترف بذلك المعنى يزيد بن معاوية، إذ كتب إليه ابن عمر يلومه على قتل الحسين فأجابه: أما بعد، فإنا أقبلنا على فرش ممهدة، ونمارق منضدة... إلى آخر الكتاب، وقد نقله البلاذري وغيره من أهل السير والأخبار، وفي كتابنا سبيل المؤمنين من هذا شئ كثير، فحقيق بالباحثين أن يقفوا عليه.
أقول: ولكي يطلع القارئ على مضمون هذه الرسائل نذكرها هنا، فالرسالة التي كتبها محمد بن أبي بكر فيها حقائق دامغة لكل باحث عن الحقيقة، فهي تصف معاوية بأنه ضال مضل، وأنه لعين ابن لعين، وأنه يعمل كل ما في وسعه لإطفاء نور الله ويبذل الأموال لتحريف الدين ويبغي لدين الله الغوائل، وأنه عدو لله ولرسوله...
والذي يهمنا هنا هو رد معاوية بن أبي سفيان على هذه الرسالة، لتعرف - أيها الباحث - حقيقة وخفايا ودسائس التاريخ، وتكشف من خلالها خيوط المؤامرة التي أبعدت الخلافة عن صاحبها الشرعي وتسببت في انحراف الأمة، فإليك الرسالة والرد عليها:
كتاب محمد بن أبي بكر إلى معاوية من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر:
سلام على أهل طاعة الله، ممن هو سلم لأهل ولاية الله، أما بعد:
فإن الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته... - إلى أن قال: - فكان أول من أجاب وأناب وآمن وصدق وأسلم وسلم، أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب عليه السلام صدقه بالغيب الكتوم وآثره على كل حميم، ووقاه بنفسه كل هول وواساه بنفسه في كل خوف، وحارب حربه وأسلم سلمه...
وقد رأيتك تساميه، وأنت أنت، وهو السابق المبرز في كل خير، أول الناس إسلاما، وأصدق الناس نية، وأفضل الناس ذرية وخير الناس زوجة... وأنت اللعين ابن اللعين، لم تزل أنت وأبوك تبغيان لدين الله الغوائل، وتجهدان في إطفاء نور الله، تجمعان على ذلك الجموع، وتبذلان فيه المال وتؤلبان عليه القبال.
إلى أن قال: فكيف يا لك الويل تعدل نفسك بعلي وهو وارثرسول الله صلى الله عليه وآله ووصيه وأبو ولده، وأول الناس له اتباعا وأقربهم به عهدا، يخبره بسره ويطلعه على أمره، وأنت عدوه وابن عدوه؟!...
رد معاوية على محمد بن أبي بكر من معاوية بن صخر إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر.
سلام على أهل طاعة الله، أما بعد:
فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في عظمته وقدرته وسلطانه، وما أصفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كلام كثير ألفته ووضعته لرأيك فيه تضعيف، ولأبيك فيه تعنيف، ذكرت فيه فضل ابن أبي طالب وقديم سوابقه وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته له ومواساته إياه في كل هول وخوف، فكان احتجاجك علي وفخرك بفضل غيرك لا بفضلك، فأحمد ربا صرف هذا الفضل عنك وجعله لغيرك.
فقد كنا وأبوك معنا في حياة نبينا نعرف حق ابن أبي طالب لازما لنا، وفضله مبرزا علينا، فلما اختار الله لنبيه عليه الصلاة والسلام ما عنده، وأتم له ما وعده، وأظهر دعوته، وأفلج حجته، وقبضه الله إليه صلوات الله عليه، كان أبوك وفاروقه أول من ابتزه حقه وخالفه على أمره، على ذلك اتفقا واتسقا، ثم إنهما دعواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما، فهما به الهموم وأرادابه العظيم، ثم إنه بايعهما وسلم لهما، وأقاما لا يشركانه في أمرهما ولا يطلعانه على سرهما، حتى قبضهما الله وانقضى أمرهما، ثم قام ثالثهما عثمان فهدي بهديهما وسار بسيرتهما، فعبته أنت وصاحبك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي فطلبتما له الغوائل حتى بلغتما فيه مناكما.
فخذ حذرك يا ابن أبي بكر، فسترى وبال أمرك، وقس شبرك بقترك تقصر عن أن توازي أو تساوي من يزن الجبال حلمه، ولا تلين على قسر قناته، ولا يدرك ذو مدى أناته.
أبوك مهد له مهاده، وبنى ملكه وشاده، فإن يك ما نحن فيه صوابا فأبوك أوله، وإن يكن جورا فأبوك استبد به ونحن شركاؤه، فبهديه أخذنا، وبفعله اقتدينا، ولولا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب، ولسلمنا إليه، ولكنا رأينا أباك فعل ذلك من قبلنا، فاحتذينا مثاله، واقتدينا بفعاله، فعب أباك بما بدا لك أو دع، والسلام على من أناب ورجع من غوايته وتاب.
أنظر جمهرة رسائل العرب ١: ٤٧٥ - ٤٧٧، مروج الذهب للمسعودي ٣: ١١ - ١٢.
ونستنتج من هذا الرد بأن معاوية لا ينكر فضائل علي بن أبي طالب ومزاياه، ولكنه تجرأ عليه احتذاء بأبي بكر وعمر، ولولاهما لما استصغر شأن علي ولا تقدم عليه أحد من الناس، كما يعترف معاوية بأن أبا بكر هو الذي مهد لبني أمية وهو الذي بنى ملكهم وشاده.
ونفهم كذلك من هذه الرسالة بأن معاوية لم يقتد برسول الله صلى الله عليه وآله ولم يهتد بهديه، عندما اعترف بأن عثمان هدى بهدي أبي بكر وعمر وسار بسيرتهما.
ولتعميم الفائدة لا بأس بذكر الرسالة الثانية والتي رد فيها يزيد بن معاوية على ابن عمر، وهي على اختصارها ترمي نفس المرمى:
كتاب عبد الله بن عمر إلى يزيد بن معاوية أخرج البلاذري في تاريخه قال:
لما قتل الحسين بن علي بن أبي طالب، كتب عبد الله بن عمر رسالة إلى يزيد بن معاوية جاء فيها:
أما بعد، فقد عظمت الرزية وجلت المصيبة، وحدث في الإسلام حدث عظيم، ولا يوم كيوم قتل الحسين.
رد يزيد على كتاب ابن عمر فكتب إليه يزيد:
أما بعد، يا أحمق! فإنا جئنا إلى بيوت مجددة، وفرش ممهدة، ووسائد منضدة، فقاتلنا عنها!
فإن يكن الحق لنا فعن حقنا قاتلنا، وإن كان الحق لغيرنا فأبوك أول من سن هذا واستأثر بالحق على أهله.
وفي رد معاوية على ابن أبي بكر، ورد يزيد على ابن عمر نجد نفس المنطق ونفس الاحتجاج، وهو لعمري أمر ضروري يقره الوجدان، ويدركه كل عاقل ولا يحتاج في الحقيقة إلى شهادة معاوية وابنه يزيد.