مثلا نقول تارة: ان شرب الخمر حرام، وتارة أخرى: ان الخمر حرام، والثاني أيضا راجع إلى الأول، إذ لا معنى لحرمة ذات الخمر، فان الحرام ما يترتب عليه العقاب، ولا يترتب العقاب على ذات الخمر بل على شربه، وهو الفعل المتعلق به، وكذا قولنا: المغصوب حرام معناه ان التصرف فيه حرام، والام والأخت حرام أي نكاحهما وهكذا، فكلما تعلق الحكم على العين يراد بها الفعل الذي اشتهر تعلقه بها.
مثلا في قوله تعالى: ﴿حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم...﴾ (١) يراد نكاحها لا النظر إليها ونحو ذلك، ولا أكلها ولا غير ذلك، و ﴿حرمت عليكم الميتة والدم...﴾ (2) أي أكلها وهكذا.
ولما كانت الأحكام جعلية حاصلة بانشاء الشارع، فقد أنشأ الشارع حكم الحرمة في أكل لحم الخنزير، وحكم الحلية في أكل لحم الغنم، فلو عكس كان الأمر بعكس القضية، لكن هذا التخصيص من الشارع ليس بمحض الهوى، بل هو وحي يوحى تابع للمصالح والمفاسد الكامنة في الأشياء فعلا أو تركا.
مثلا إذا كان في الفعل مصلحة ملزمة كالصلاة التي هي مطهرة للباطن، وجاعلة للطينة الانسانية نورانية قابلة لدخول الجنة دار قرب الجبار، ومحل مصاحبة الأخيار، وكان تركها جاعلا للطينة الظلمانية مستحقة لدخول النار، والانتظام في سلك الأشرار، جعلها واجبة لاشتمالها على المصالح الباطنية مما ذكر وغيره من المصالح الكثيرة، والخمر بالعكس فعلا وتركا، فجعلها محرمة للاشتمال على المفاسد الباطنية، وكونها أم كل خبيثة ورذيلة.
وإن كانت المصلحة جزئية غير ملزمة جعل الفعل مندوبا، أو المفسدة كذلك جعله مكروها، أو تساوى الطرفين جعله مباحا، وكذا الكلام في الطهارة والنجاسة وغير ذلك، فمباشرة الماء مثلا لا توجب الخباثة الباطنية، ولا تبطل الصلاة، ولا تمنعها عن الصحة المطلوبة اللازمة، فحكم فيه بالطهارة بخلاف الدم والخمر