المراد ما ما كنت تدري ما الكتاب. ولا كيفية ماهية الإيمان وحقيقته، ولا يلزم من كونه مؤمنا معرفة ذلك، بدليل أن أكثر الناس هم كذلك، أو ما كنت تدري ما الكتاب ولا الدعاء إلى الإيمان، إذ كيفية دعاء الناس إلى الإيمان، إنما تعلم بالوحي، فقبل الوحي من أين تعلم؟ ولا يلزم من كون الإنسان مؤمنا في نفسه أن يدري كيف يدعو إلى ما يدعو غيره لجواز أن يتعبد الله - تعالى - كل إنسان بأمر غير ما تعبد به الآخر، اختص النبي صلى الله عليه وسلم بخواص تعبد لم تكن لغيره.
قال القاضي عياض: قد بان مما قدمناه عقود الأنبياء في التوحيد والإيمان والوحي، وعصمتهم في ذلك - على ما بيناه - فأما ما عدا هذا الباب من عقود قلوبهم، فجماعها أنها مملوءة علما ويقينا على الجملة وإنما احتوت من المعرفة بأمور الدين والدنيا ما لا شئ فوقه، ومن طالع الأخبار واعتنى بالحديث وتأمل ما قلناه، وجده إلا أن أحوالهم في هذه المعارف تختلف، فأما ما تعلق منها بأمر الدنيا فلا يشترط في حق الأنبياء - عليهم السلام - العصمة من عدم معرفة الأنبياء ببعضها أو اعتقادها على خلاف ما هي عليه، ولا وصم عليهم فيه إذ هممهم متعلقة بالآخرة وأسبابها وأمر الشريعة وقوانينها، وأمور الدنيا تضادهم بخلاف غيرهم الذين: ﴿يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون﴾ (1)، كما سنبين - إن شاء الله تعالى - ولكنه لا يقال إنهم لا يعلمون شيئا من أمر الدنيا، فإن ذلك يؤدي إلى الغفلة والبله، وهم المنزهون عنه، بل قد أرسلوا إلى أهل الدنيا، وقلدوا سياستهم وهدايتهم والنظر في مصالح دينهم ودنياهم، وهذا لا يكون مع هدم العلم بأمور الدنيا بالكلية، وأحوال الأنبياء وسيرتهم في هذا الباب معلومة، ومعرفتهم بذلك كله مشهورة، وإن كان هذا العقد مما يتعلق بالدين، فلا يصح من النبي إلا العلم، ولا يجوز عليه جهله جملة لأنه لا يخلو أن يكون حصل عنده ذلك عن وحي من الله - تعالى - فهو ما لا يصح الشك منه على ما قدمناه، فكيف الجهل؟ بل حصل له العلم اليقين أو يكون فعل ذلك باجتهاده، فلما لم ينزل عليه فيه شئ على القول بتجويز الاجتهاد منه في ذلك على قول المحققين، وعلى مقتضى حديث