وكذلك صيامهم: كصوم احتراق بيت المقدس، وصوم كدليا وصوم صلب هامان، ليس شئ منها في التوراة، ولا صامها موسى ولا يوشع، وإنما وضعوها لأسباب اقتضت عندهم وضعها - كما بينته في موضعه من كتاب (المواعظ والاعتبار) (1).
وهذا مع أنه في التوراة ما ترجمته: لا [تزيدوا] على الأمر الذي أنا موصيكم به شيئا ولا تنقصوا منه شيئا. وقد تضمنت التوراة أوامر كثيرة جدا، وهم مجمعون على تعطيلها وإلغائها، فإما أن تكون منسوخة بنصوص أخرى من التوراة، أو بنقل صحيح عن موسى عليه السلام، أو باجتهاد علمائهم وأحبارهم، وعلى التقادير الثلاث فقد بطلت شبهتهم في إنكار النسخ.
ثم من العجب أن أكثر تلك الأوامر التي هم مجمعون على عدم القول والعمل بها، إنما يستندون فيها إلى قول علمائهم وآرائهم، وقد اتفقوا على تعطيل رجم الزاني - وهو نص التوراة - ومن مذهبهم: أن الفقهاء إذا أحلوا لهم الشئ صار حلالا، وإذا حرموه صار حراما وإن كان نص التوراة بخلافه؟؟.
وهذا تجويز منهم لنسخهم ما شاءوا من شريعة التوراة، فحجروا على الرب تعالى أن ينسخ ما يريد من شريعته، وجوزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم، فأشبهوا إبليس في أنه تكبر في أن يسجد لآدم، ورأى ذلك نقيصة له، ثم رضي أن يكون قوادا لكل عاص وفاسق من أولاد آدم.
وأشبهوا أيضا [عباد] الأصنام في أنهم أنفوا أن يكون النبي المرسل من الله تعالى إليهم بشرا ثم رضوا أن يكون إلههم ومعبودهم حجرا نحتوه بأيديهم، وأشبهوا أيضا النصارى فإنهم نزهوا [بطارقتهم] عن الولد والصاحبة، ولم يتحاشوا من نسبة ذلك إلى الله رب العالمين سبحانه وتعالى.
ولم يبق لليهود إلا أن يقولوا: إن موسى عليه السلام نص على دوام شريعته وتأبدها ما دامت السماوات والأرض، وهو يقتضي أن لا ناسخ لها، فأحد الأمرين لازم: إما كذب خبر موسى، أو بطلان شرع من بعده.