فإن قالوا أغنانا عدمه عن فعله قيل لهم: قد تبدل الحكم الشرعي من الوجوب إلى إسقاطه لمصلحة التعذر، وكذلك يتبدل الحكم الشرعي من الوجوب إلى إسقاطه لمصلحة التعذر بنسخه لمصلحة النسخ، فإنكم إن بنيتم على اعتبار المصالح والمفاسد في الأحكام فلا ريب أن الشئ قد يكون مصلحة في وقت دون وقت، وفي شريعة دون أخرى، كما كان تزوج الأخ بالأخت مصلحة في شريعة آدم عليه السلام، ثم صار مفسدة في سائر الشرائع، وكذلك إباحة العمل يوم السبت، كان مصلحة في شريعة إبراهيم عليه السلام ومن قبله، وإن مفسدة في شريعة آدم عليه السلام، وأمثال ذلك ذلك كثيرة.
وبالجملة فالتحليل والتحريم تبع مشيئة الله الذي لا يسأل عما يفعل، فإن قالوا: لا نستغني في الطهارة عن الطهور الذي كان عليه أسلافنا، فقد أقروا بأنهم الأنجاس أبدا، ولا سبيل لهم إلى حصول الطهارة، فإن أقروا بذلك قيل لهم:
فما بالكم تعتزلون الحائض بعد انقطاع الحيض وارتفاعه سبعة أيام اعتزالا تخرجون فيه عن الحد بحيث أن أحدكم إذا لمس ثوبه ثوب المرأة تجنبتموه مع ثوبه؟.
فإن قالوا: كل ذلك من أحكام التوراة، قيل لهم: أليس في التوراة أن ذلك يراد به الطهارة؟ فإذا كانت الطهارة قد تعذرت عندكم، والنجاسة التي أنتم عليها لا ترتفع بالغسل فهي إذا أشد من نجاسة الحيض، ثم إنكم ترون أن الحائض طاهرا إذا كانت من غير ملتكم ولا تنجسون من لمسها ولا الثوب الذي لمسته، فتخصيص هذا الأمر بطائفتكم ليس في التوراة منه شئ، وهذا الفصل مما يحتاج إليه.
فافرض أن يهوديا رام مناظرتك أو رمت مناظرته فإنك لم تعلم حقيقة ما هو عليه وما تبطل به قوله من كتابه، وإلا تسلط عليك وتوجهت الملامة من الله ورسوله إليك، فإن قال بعض اليهود التوراة قد حظرت أمورا كانت متاحة من قبل ولم تأت بإباحة محظور، والنسخ الذي ننكره ونمنع منه هو ما أوجب إباحة محظور، لأن تحريم الشئ إنما هو لأجل ما فيه من المفسدة، فإذا جاءت شريعة بتحريمه كان ذلك من مؤكداتها ومقرراتها، فإذا جاء من إباحة علمنا بإباحته المفسدة أنه غير نبي، بخلاف تحريم ما كان مباحا، فإنا نكون متعبدين بتحريمه وشريعتكم وردت بإباحة أشياء كثيرة مما حرمته التوراة، مع أنه إنما حرمه الله لما فيه من المفسدة قيل له: