ألا ترى أن تحريم السبت لو كان حراما على نوح وإبراهيم وسائر النبيين، وكذلك ما حرمته التوراة من المطاعم والمناكح وغيرها، لو كان حراما لعينه وذاته لوجب تحريمه على كل نبي وفي كل شريعة، وإذا كان الله تعالى لا حجر عليه بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ويبتلي عباده بما شاء، ويحكم ولا يحكم عليه، فما الذي يحمل عليه ويمنعه أن يأمر أمة بأمر من أوامر الشريعة ثم ينهى أمة أخرى عنه، أو يحرم على أمة شيئا ويبيحه لأمة أخرى، بل أي شئ يمنعه تعالى؟.
ذلك بقوله: [ما ننسخ من آية أو [ننساها] (1) نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض] (2)، فأخبر سبحانه أن عموم قدرته وتصرفه في مملكته وخلقه لا يمنعه أن ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء، كما أنه يمحو من أحكامه القدرية الكونية ما يشاء ويثبت، فهكذا أحكامه الدينية الأمرية ينسخ منها ما يشاء ويثبت ما يشاء، فمن أكفر الكفر وأظلم الظلم أن يعارض الرسول الذي جاء بالبينات والهدى، ويدفع نبوته ويجحد رسالته بكونه أتى بإباحة بعض ما كان محرما على من قبله، أو بتحريم بعض ما كان مباحا لهم، ومن العجب أن اليهود تحجر على الله تعالى أن ينسخ ما يشاء من شرائعه، وفي توراتهم أن الله - تعالى عن قولهم - يأسف على خلقه الإنسان لأفكارهم الخبيثة، فخلقه أن يبيدهم فأبادهم.
ثم لما أرسل الطوفان أسف وندم وقال: ما عدت أهلك الخلق به مرة أخرى، فمن يندم ويتأسف كيف يمتنع عليه البداء على قولهم؟ وهم قد تركوا شريعة موسى عليه السلام في أكثر ما هم عليه، وتمسكوا بما شرعه لهم أحبارهم وعلماؤهم، فمن ذلك: أنهم يقولون في صلواتهم ما هذه ترجمته: اللهم اضرب ببوق عظيم لعتقنا واقبضنا جميعا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك، سبحانك يا جامع شتات قومه إسرائيل.
ويقولون كل يوم ما ترجمته: أردد حكامنا كالأولين، وسيرتنا كالابتداء، وابن أورشليم قرية قدسك وعزنا ببناها، سبحانك يا باني يورشليم. فهذه أقوالهم في صلواتهم مع علمهم بأن موسى وهارون عليهما السلام لم يقولا شيئا من ذلك، ولكنها فصول لفقت بعد زوال دولتهم.