لا فرق في اقتضاء المصلحة بين تغير الإباحة بالتحريم أو التحريم بالإباحة، والشبهة التي عرضت في أحد الموضعين، هي بعينها في الموضع الآخر، فإن إباحة الشئ في الشريعة تابع لعدم مفسدته، إذا لو كانت هناك مفسدة راجحة لم تأت الشريعة بإباحته، فإذا حرمته الشريعة الأخرى وجبت قطعا أن يكون تحريمه فيها هو المصلحة، كما كان إباحته في الشريعة الأولى هي المصلحة، فإن تضمن إباحة المحرم في الشريعة الآخرة إباحة المفسدة - وحاش لله - تضمن تحريم المباح في الشريعة الأولى تحريم المصالح، وكلاهما باطل قطعا.
فإذا جاز أن تأتي شريعة التوراة بتحريم ما كان إبراهيم تقدمه يستبيحه، فجائز أن تأتي شريعة أخرى بتحليل بعض ما كان في التوراة محظورا، وهذه الشبهة هي التي ردت بها اليهود نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، هي بعينها التي رد بها أسلافهم نبوة المسيح عليه السلام، لا تقر بنبوة من غير التوراة.
فيقال لهم: فكيف أقررتم لموسى عليه السلام بالنبوة، وقد جاء بتغيير بعض الشرائع [التي] تقدمته، فإن قدح ذلك في المسيح ومحمد صلوات الله عليهما قدح في موسى، فلا [تكون] في نبوتهما بقادح إلا ومثله في نبوة موسى سواء، كما أنكم لا تثبتون نبوة موسى ببرهان إلا وأضعافه شاهد على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أبين المحال أن يكون موسى رسولا صادقا ومحمد ليس برسول، أو يكون المسيح رسولا ومحمد ليس برسول.
ويقال لليهود أيضا: لا تحلوا المحرم، إما أن يكون تحريمه لعينه وذاته بحيث لم يعهد في زمان من الأزمنة إباحته، وإما أن يكون تحريمه لما يتضمنه من المفسدة في زمان دون زمان، ومكان دون مكان، وحال دون حال، وإن كان الأول لزم أن يكون ما حرمته التوراة محرما على جميع الأنبياء في كل زمان ومكان، من عهد نوح إلى خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
وإن كان الثاني، ثبت أن التحريم والإباحة تابعان للمصلحة، وإنما يختلف باختلاف الزمان والمكان والحال، فيكون الشئ الواحد حرما من ملة دون ملة، ووقف دون وقت، وفي مكان دون مكان، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الرسل عليهم السلام، ولا يليق بحكمة أحكم الحاكمين غير ذلك.