كان ذلك في العهود البعيدة، عهود تدوين الكتب باليد وخطها بالقلم، حيث لا طباعة ولا وسيلة لنشر الكتاب إلا أيدي الكاتبين وأقلامهم. وتتوالى العصور على النجف، تتوالى بكل أعاصيرها طورا وكل سكونها طورا، تتوالى وتتوالى معها الأيدي، حافظة تارة وعابثة أخرى - وما كان للنجف أن يصمد للعبث، ويد التخريب هي دائما أنجح من يد التعمير - حتى تمزقت المكتبة الكبيرة وذهبت، إما ركاما فوق ركام تأكلها الرطوبة ويبليها الإهمال، وإما استحلالا من المستحلين واستغلالا للمستغلين.
وكان من العار أن يذهب الذاهب إلى النجف، فيسأل عن مصادر العلم وموارد الكتب فلا يجد مصدرا عاما ولا موردا راهنا، لولا بقية من الحفظة العاملين، الذين أقاموا في دورهم مكتبات حافلة وخزانات عامرة، كانت لا تلبث أن تموت بموت جامعها وتتفرق ها هنا وها هنا.
ولطالما عانيت حرجا حينما كان يلم بي الذاهبون إلى النجف مستطلعين عن مكتبتها الكبرى، فلا أجد جوابا سوى أن أحيلهم إلى الأعلام من مقتني الكتب وحفاظها، فيتساءلون: أليس في النجف ما في مثيلاتها من دور الكتب؟!
كان ذلك قبل أن يهب شيخنا الأميني هبته الكبرى، ويطلق نداءه الصارخ... ومن العجيب أن أحدا قبله لم يفكر تفكيره القويم، ويسلك صراطه المستقيم. وعلى ما رأت النجف من أعلام، وما مر بها من عظام، لم تجد قبل الأميني مفكرا من هذا الطراز، يدرك بثاقب بصيرته حاجة النجف فيسدها.
ومن هنا نستطيع أن نحس بعد نظر الأميني وعمق تفكيره وما كان له من انفتاح على شؤون الكون وحاجات الحياة، ومن هنا نستطيع أن نقول: إنه لم يكن لمذهبه ولا لدينه ولا لبلدته ولا لموطنه فحسب، بل كان إنسانيا، يستغرق بجهده أرفع ما في الإنسانية من رفيع، وعالميا يستوعب أنبل ما في العالم من نبيل. وهل يشارك العالم كله في شئ أنبل من مشاركته في تشييد نوادي الفكر وما تضمنه من علم جم وأدب ثر؟!