الحجة الثالثة: أنه سبحانه ذكر قبل هذه الآية: * (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) * (البقرة: 224) وقد ذكرنا أن معناه النهي عن كثرة الحلف واليمين، وهؤلاء الذين يقولون على سبيل الاعتياد: لا والله وبلى والله لا شك أنهم يكثرون الحلف، فذكر تعالى عقيب قوله: * (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) * حال هؤلاء الذين يكثرون الحلف على سبيل الاعتياد في الكلام لا على سبيل القصد إلى الحلف، وبين أنه لا مؤاخذة عليهم، ولا كفارة، لأن إيجاب المؤاخذة والكفارة عليهم يفضي إما إلى أن يمتنعوا عن الكلام، أو يلزمهم في كل لحظة كفارة وكلاهما حرج في الدين فظهر أن تفسير اللغو بما ذكرناه هو المناسب لما قبل الآية، فأما الذي قال أبو حنيفة رضي الله عنه فإنه لا يناسب ما قبل الآية فكان تأويل الشافعي أولى، حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه.
الحجة الأولى: قوله صلى الله عليه وسلم: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه " الحديث دل على وجوب الكفارة على الحانث مطلقا من غير فصل بين المجد والهازل.
الحجة الثانية: أن اليمين معنى لا يلحقه الفسخ، فلا يعتبر فيه القصد كالطلاق والعتاق، فهاتان الحجتان يوجبان الكفارة في قول الناس: لا والله بلى والله، إذا حصل الحنث، ثم الذي يدل على أن اللغو لا يمكن تفسيره بما قال الشافعي، ويجب تفسيره بما قاله أبو حنيفة أن اليمين في اللغة عبارة عن القوة قال الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجد * تلقاها عرابة باليمين أي بالقوة، والمقصود من اليمين تقوية جانب البر على جانب الحنث بسبب اليمين، وهذا إنما يفعل في الموضع الذي يكون قابلا للتقوية، وهذا إنما يكون إذا وقع اليمين على فعل في المستقبل، فأما إذا وقع اليمين على الماضي فذلك لا يقبل التقوية البتة، فعلى هذا اليمين على الماضي تكون خالية عن الفائدة المطلوبة منها، والخالي عن المطلوب يكون لغوا، فثبت أن اللغو هو اليمين على الماضي، وأما اليمين على المستقبل فهو قابل للتقوية، فلم تكن هذه اليمين خالية عن الغرض المطلوب منها فلا تكون لغوا.
القول الثالث: في تفسير يمين اللغو: هو أنه إذا حلف على ترك طاعة، أو فعل معصية، فهذا هو يمين اللغو وهو المعصية. قال تعالى: * (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) * (القصص: 55) فبين أنه تعالى لا يؤاخذ بترك هذه الأيمان، ثم قال: * (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) * أي بإقامتكم على ذلك الذي حلفتم عليه من ترك الطاعة وفعل المعصية، قالوا: وهذا التأويل مناف لقوله عليه السلام: " من حلف على