دم الحيض، وما لا يكون كذلك لا يكون دم حيض، وما اشتبه الأمر فيه فالأصل بقاء التكاليف وزوالها إنما يكون لعارض الحيض، فإذا كان غير معلوم الوجود بقيت التكاليف التي كانت واجبة على ما كان، ومن الناس من قال: هذه الصفات قد تشتبه على المكلف، فإيجاب التأمل في تلك الدماء وفي تلك الصفات يقتضي عسرا ومشقة، فالشارع قدر وقتا مضبوطا متى حصلت الدماء فيه كان حكمها حكم الحيض كيف كانت تلك الدماء، ومتى حصلت خارج ذلك الوقت لم يكن حكمها حكم الحيض كيف كانت صفة تلك الدماء، والمقصود من هذا إسقاط العسر والمشقة عن المكلف، ثم إن الأحكام الشرعية للحيض هي المنع من الصلاة والصوم واجتناب دخول المسجد ومس المصحف وقراءة القرآن، وتصير المرأة به بالغة، والحكم الثابت للحيض بنص القرآن إنما هو حظر الجماع على ما بينا كيفية دلالة الآية عليه.
المسألة الخامسة: اختلف الناس في مدة الحيض فقال الشافعي رحمه الله تعالى: أقلها يوم وليلة، وأكثرها خمسة عشر يوما، وهذا قول علي بن أبي طالب وعطاء بن أبي رباح والأوزاعي وأحمد وإسحق رضي الله عنهم، وقال أبو حنيفة والثوري: أقله ثلاثة أيام ولياليهن فإن نقص عنه فهو دم فاسد، وأكثره عشرة أيام، قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن: وقد كان أبو حنيفة يقول بقول عطاء: إن أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما، ثم تركه وقال مالك لا تقدير لذلك في القلة والكثرة، فإن وجد ساعة فهو حيض، وإن وجد أياما فكذلك، واحتج أبو بكر الرازي في أحكام القرآن على فساد قول مالك فقال: لو كان المقدار ساقطا في القليل والكثير لوجب أن يكون الحيض هو الدم الموجود من المرأة فكان يلزم أن لا يوجد في الدنيا مستحاضة، لأن كل ذلك الدم يكون حيضا على هذا المذهب وذلك باطل بإجماع الأمة، ولأنه روي أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إني أستحاض فلا أطهر، وأيضا روي أن حمنة استحيضت سبع سنين ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لهما إن جميع ذلك حيض، بل أخبرهما أن منه ما هو حيض ومنه ما هو استحاضة، فبطل هذا القول والله أعلم.
واعلم أن هذه الحجة ضعيفة لأن لقائل أن يقول: إنما يميز دم الحيض عن دم الاستحاضة بالصفات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لدم الحيض، فإذا علمنا ثبوتها حكمنا بالحيض، وإذا علمنا عدمها حكمنا بعدم الحيض، وإذا ترددنا في الأمرين كان طريقان الحيض مجهولا وبقاء التكليف الذي هو الأصل معلوم والمشكوك لا يعارض المعلوم، فلا جرم حكم ببقاء التكاليف الأصلية، فبهذا الطريق يميز الحيض عن الاستحاضة وإن لم يجعل للحيض زمان معين، وحجة مالك من وجهين الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين علامة دم