الدليل على صدق دعواها لا يتفاوت في ذلك حال الخاصة والعامة في دلالتها وإثباتها، وثانيا ان ما يجده الرسول والنبي من الوحي ويدركه منه من غير سنخ ما نجده بحواسنا وعقولنا النظرية الفكرية، فالوحي غير الفكر الصائب، وهذا المعنى في كتاب الله تعالى من الوضوح والسطوع بحيث لا يرتاب فيه من له أدنى فهم وأقل إنصاف.
وقد إنحرف في ذلك جمع من الباحثين من أهل العصر فراموا بناء المعارف الإلهية والحقائق الدينية على ما وصفه العلوم الطبيعية من أصالة المادة المتحولة المتكاملة فقد رأوا أن الادراكات الانسانية خواص مادية مترشحة من الدماغ وأن الغايات الوجودية وجميع الكمالات الحقيقية استكمالات فردية أو اجتماعية مادية.
فذكروا ان النبوة نوع نبوغ فكري وصفاء ذهني يستحضر به الانسان المسمى نبيا كمال قومه الاجتماعي ويريد به أن يخلصهم من ورطة الوحشية والبربرية إلى ساحة الحضارة والمدنية فيستحضر ما ورثه من العقائد والآراء ويطبقها على مقتضيات عصره ومحيط حياته، فيقنن لهم أصولا اجتماعية وكليات عملية يستصلح بها أفعالهم الحيوية ثم يتمم ذلك بأحكام وأمور عبادية ليستحفظ بها خواصهم الروحية لافتقار الجامعة الصالحة والمدنية الفاضلة إلى ذلك ويتفرع على هذا الافتراض:
أولا: أن النبي إنسان متفكر نابغ يدعو قومه إلى صلاح محيطهم الاجتماعي.
وثانيا: أن الوحي هو انتقاش الأفكار الفاضلة في ذهنه.
وثالثا: أن الكتاب السماوي مجموع هذه الأفكار الفاضلة المنزهة عن التهوسات النفسانية والاغراض النفسانية الشخصية.
ورابعا: أن الملائكة التي أخبر بها النبي قوى طبيعية تدبر أمور الطبيعة أو قوى نفسانية تفيض كمالات النفوس عليها، وأن روح القدس مرتبة من الروح الطبيعية المادية تترشح منها هذه الأفكار المقدسة، وأن الشيطان مرتبة من الروح تترشح منها الأفكار الردية وتدعو إلى الأعمال الخبيثة المفسدة للاجتماع، وعلى هذا الأسلوب فسروا الحقائق التي أخبر بها الأنبياء كاللوح والقلم والعرش والكرسي والكتاب والحساب والجنة والنار بما يلائم الأصول المذكورة.