(بيان) قوله تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصاري، رجوع إلى الطائفتين بعد الالتفات إلى غيرهم، وهو بمنزلة جمع أطراف الكلام على تفرقها وتشتتها، فكأنه بعد هذه الخطابات والتوبيخات هم يرجع إلى رسوله ويقول له: هؤلاء ليسوا براضين عنك، حتى تتبع ملتهم التي ابتدعوها بأهوائهم ونظموها بآرائهم، ثم أمره بالرد عليهم بقوله: قل ان هدى الله هو الهدى أي ان الاتباع إنما هو لغرض الهدى ولا هدى إلا هدى الله والحق الذي يجب أن يتبع وغيره - وهو ملتكم - ليس بالهدى، فهي أهوائكم ألبستموها لباس الدين وسميتموها باسم الملة، ففي قوله: قل ان هدى الله إلخ، جعل الهدى كناية عن القرآن النازل، ثم أضيف إلى الله فأفاد صحة الحصر في قوله: ان هدى الله هو الهدى على طريق قصر القلب، وأفاد ذلك خلو ملتهم عن الهدى، وأفاد ذلك كونها أهوائا لهم، واستلزم ذلك كون ما عند النبي علما، وكون ما عندهم جهلا، واتسع المكان لتعقيب الكلام بقوله: ولئن اتبعت أهوائهم بعد الذي جائك من العلم، ما لك من الله من ولي ولا نصير، فانظر إلى ما في هذا الكلام من أصول البرهان العريقة، ووجوه البلاغة على إيجازه، وسلاسة البيان وصفائه.
قوله تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يمكن أن تكون الجملة بقرينة الحصر المفهوم من قوله: أولئك يؤمنون به جوابا للسؤال المقدر الذي يسوق الذهن إليه قوله تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى إلخ، وهو انهم إذا لم يكن مطمع في إيمانهم، فمن ذا الذي يؤمن منهم؟ وهل توجيه الدعوة إليهم باطل لغو؟ فأجيب بأن الذين آتيناهم الكتاب والحال أنهم يتلونه حق تلاوته، أولئك يؤمنون بكتابهم فيؤمنون بك، أو ان أولئك يؤمنون بالكتاب، كتاب الله المنزل أيا ما كان، أو ان أولئك يؤمنون بالكتاب الذي هو القرآن. و على هذا: فالقصر في قوله: أولئك يؤمنون به قصر افراد والضمير في قوله: به على بعض التقادير لا يخلو عن استخدام.
والمراد بالذين أوتوا الكتاب قوم من اليهود والنصارى ليسوا متبعين للهوى من أهل