عناني، وما عجبت من أحدوثة إلا رأيت بعدها أعجوبة. واعلموا أن أشجع القوم العطوف، وخير الموت تحت ظلال السيوف، ولا خير فيمن لا روية له عند الغضب، ولا فيمن إذا عوتب لم يعتب ومن الناس من لا يرجى خيره، ولا يخاف شره، فبكوءه (1) خير من دره، وعقوقه خير من بره، ولا تبرحوا في حبكم فإن من أبرح في حب آل ذلك إلى قبيح بغض، وكم قد زارني إنسان وزرته، فانقلب الدهر بنا فقبرته. واعلموا أن الحليم سليم، وأن السفيه كليم، إني لم أمت ولكن هرمت، ودخلتني ذلة فسكت، وضعف قلبي فأهترت (2)، سلمكم ربكم وحياكم!
* * * ومن كتاب أردشير بن بابك إلى بنيه والملوك من بعده: رشاد الوالي خير للرعية من خصب الزمان الملك والدين توأمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فالدين أس الملك وعماده، ثم صار الملك حارس الدين فلا بد للملك من أسه، ولا بد للدين من حارسه، فأما مالا حارس له فضائع، وما لا أس له فمهدوم، إن رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة إياكم إلى دراسة الدين وتأويله والتفقه فيه، فتحملكم الثقة بقوة الملك على التهاون بهم، فتحدث في الدين رياسات منتشرات سرا فيمن قد وترتم وجفوتم، وحرمتم وأخفتم، وصغرتم من سفلة الناس والرعية وحشو العامة، ثم لا تنشب تلك الرياسات أن تحدث خرقا في الملك ووهنا في الدولة. واعلموا أن سلطانكم إنما هو على أجسادكم الرعية لا على قلوبها. وإن غلبتم الناس على ما في أيديهم فلن تغلبوهم على ما في عقولهم وآرائهم ومكايدهم.
واعلموا أن العاقل المحروم سال عليكم لسانه، وهو أقطع سيفيه، وإن أشد ما يضر بكم من لسانه ما صرف الحيلة فيه إلى الدين، فكان للدنيا يحتج (3)، وللدين فيما يظهر يتعصب فيكون .