في العمر تنفسا، وفى الملك سلامة ازداد من هذه الطبائع والأخلاق حتى يسلمه ذلك إلى سكر السلطان الذي هو أشد من سكر الشراب، فينسى النكبات والعثرات، والغير والدوائر وفحش تسلط الأيام، ولؤم غلبة الدهر، فيرسل يده بالفعل ولسانه بالقول. وعند حسن الظن بالأيام تحدث الغير، وتزول النعم، وقد كان من أسلافنا وقدماء ملوكنا من يذكره عزه الذل، وأمنه الخوف، وسروره الكآبة، وقدرته المعجزة، وذلك هو الرجل الكامل قد جمع بهجة الملوك، وفكرة السوقة، ولا كمال إلا في جمعها.
واعلموا أنكم ستبلون على الملك بالأزواج والأولاد والقرباء والوزراء والأخدان، والأنصار والأعوان والمتقربين والندماء والمضحكين، وكل هؤلاء - إلا قليلا - أن يأخذ لنفسه أحب إليه من أن يعطى منها عمله، وإنما عمله سوق ليومه، وذخيرة لغده، فنصيحته للملوك فضل نصيحته لنفسه وغاية الصلاح عنده صلاح نفسه، وغاية الفساد عنده فسادها، يقيم للسلطان سوق المودة ما أقام له سوق الأرباح والمنافع، إذا استوحش الملك من ثقاته أطبقت عليه ظلم الجهالة. أخوف ما يكون العامة [آمن ما يكون الوزراء، وآمن ما يكون العامة (1)] أخوف ما يكون الوزراء.
واعلموا أن كثيرا من وزراء الملوك من يحاول استبقاء دولته وأيامه بإيقاع الاضطراب، والخبط في أطراف مملكة الملك، ليحتاج الملك إلى رأيه وتدبيره، فإذا عرفتم هذا من وزير من وزرائكم فاعزلوه فإنه يدخل الوهن والنقص على الملك والرعية لصلاح حال نفسه، ولا تقوم نفسه بهذه النفوس كلها.
واعلموا أن بدء ذهاب الدولة ينشأ من قبل إهمال الرعية بغير أشغال معروفة ولا أعمال معلومة، فإذا نشأ الفراغ تولد منه النظر في الأمور، والفكر في الفروع و الأصول. فإذا نظروا في ذلك نظروا فيه بطبائع مختلفة فتختلف بهم المذاهب، ويتولد من اختلاف مذاهبهم تعاديهم وتضاغنهم، وهم مع اختلافهم هذا متفقون و مجتمعون على بغض الملوك، فكل صنف منهم أنما يجرى إلى فجيعة الملك، بملكه، ولكنهم لا يجدون سلما إلى .