فهذه محنته يوم صفين مشبهة لمحنة هارون مع بني إسرائيل.
[فهذا الموجز يكفيكم] لتعلموا أنه رحمه الله باستحقاق كانت منزلته من النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة هارون من موسى المصطفى صلى الله عليه بالاسم والمعنى.
فتدبروا ما نحن واصفون من مناقب أمير المؤمنين معاشر المسلمين، لتعلموا فضله على جميع العالمين، وأنه قد برز على جميع الصديقين، وفضل على جميع المجاهدين.
ومتى قال قائل: قد كان ينبغي له يوم صفين أن يمضي بمن أطاعه إذ علم أن تلك مكيدة من القوم، ويحمل بنفسه قدما على بصيرته ولا يجيبهم إلى الموادعة، فلهذا من القول معارض في خلافه أقوى منه في وجه الرأي وباب الحزم، لأنه لو فعل ذلك فقتل وقتل من معه، لقال قائل: قد كان ينبغي إذا اختلف أصحابه وبقي وحده مع عصابة قليلة أن لا يعجل عليهم فيغرر بنفسه ويعرض / 58 / من معه ومن يرى رأيه للتلف والهلكة ويعز العدو بهذا من فعله ولو وادع العدو كان أبلغ في الرأي ليقوى الضعيف ويتثبت الشاك ويكثر الأنصار، ويحقن الدماء فإن أجاب القوم إلى متابعته وإلا انكفأ عليهم راجعا وقد قوي جده واستبصر أصحابه وكثر أنصاره وانكشف للناس ظلم من خالفه، وأنه لم يرد الله بما دعا إليه من الحكومة (1).
فهذان الرأيان في القول قد وقعا، وأبلغهما وأقواهما في باب الحزم [هو] ما فعل رضي الله عنه، لأن الأمة كانت إليه أحوج، وصلاحها في بقائه أوضح لأنه هاديها وغياثها وقائدها إلى ما فيه رشدها.
ولا أظن أحدا يتوهم أنه فعل ما فعل هيبة للحرب وخوفا من الموت ومحبة للبقاء، ولكنه آثر النظر للدين وحيطة الإيمان، وما هو أصلح للعباد. فلم يرض الناس إلا أبا موسى الأشعري، واتفقت كلمة أكثرهم عليه.