باعتبار طريقة النظم مع الفصاحة، ولهذا لا يتحدى الشاعر الخطيب الذي لا يتمكن من الشعر، ولا الخطيب الشاعر، وإنما يتحدى كل بنظيره، ولا يقنع المعارض حتى يأتي بمثل عروض صاحبه كمناقضة جرير للفرزدق، وجرير للأخطل، وإذا كانت هذه عادتهم، فإنما اختلفوا في التحدي عليها.
فان قيل: عادة العرب وإن جرت في التحدي بما ذكر تموه، فلا يمنع صحه التحدي بالفصاحة دون طريقة النظم، لا سيما والفصاحة هي التي بصح فيها التفاضل وإذا لم يمتنع ذلك فبما أنكرتم أن يكون تحداهم بالفصاحة دون الظلم، فأفهمهم قصده، فلهذا لم يستفهموه.
قلنا: ليس نمنع أن يقع التحدي بالفصاحة دون النظم، فمن أين عرفته وإنما سمعناه في التحدي بالقرآن من حيث أطلق التحدي به، وعري عما يخصه بوجه دون وجه، فحملناه على ما عهده القوم، وألفوه في التحدي، فلو كان أفهمهم تخصيص التحدي بقول مسموع، لوجب أن ينقل إلينا لفظه، ولا نجد له نقلا، ولو كان أفهمهم بمخارج الكلام أو بإشارة وغيرها لوجب اتصاله بنا أيضا فان ما يدعو إلى النقل للألفاظ، يدعو إلى نقل ما يتصل بها من مقاصد ومخارج، سيما فيما تمس الحاجة إليه.
ألا ترى أنه لما نفى النبوة بعد نبوته بقوله: (لا نبي بعدي) أفهم مراده السامعين من هذا القول أنه عنى لا نبي بقي من البشر كلهم، وأراد بالبعد عموم سائر الأوقات، اتصل ذلك بنا على حد اتصال اللفظ، وفي ارتفاع كل ذلك من النقل دليل على صحة قولنا.
على أن التحدي لو كان مقصورا على الفصاحة دون النظم، لوقعت المعارضة من القوم ببعض فصيح شعرهم، أو بليغ كلامهم، لأنا نعلم خفاء الفرق بين قصار السور وفصيح كلام العرب.
فكان يجب أن يعارضوه، فإذا لم يفعلوا، فأنهم فهموا من التحدي الفصاحة وطريقة النظم، ولم يجتمعا لهم، واختصاص القرآن بنظم مخالف لسائر ضروب