يرغبون عن معارضته (1).
فان قيل: ألستم تقولون إن ما يأتي به محمد من القرآن هو كلام الله وفعله وقلتم إن مقدورات العباد لا تنتقض بها العادة، وقلتم إن القرآن هو أول كلام تكلم به تعالى، وليس بحادث في وقت نزوله، والناقض للعادة لابد وأن يكون هو متجدد الحدوث، لان الكلام مقدور للعباد، فما يكون من جنسه لا يكون ناقضا للعادة، فلا يكون معجزا للعباد.
الجواب أن الناقض للعادة هو ظهور القرآن في مثل بلاغته المعجزة، وذلك يتجدد، وليس يظهر مثله في العادة سواء جوز أن يكون من قبله أو من قبل ملك يظهر عليه بأمره تعالى أو أوحى الله به إليه، فإذا علم صدقه في دعواه بظهور مثل هذا الكلام البليغ الذي يعجز عنه المبعوث إليه وجنسه عن مثله، وعما يقاربه وكان ناقضا للعادة، فكان معجزا دالا على صدقه، ولم يضرنا في ذلك أن يكون تعالى تكلم به قبل، إذ لم يجر تعالى عادته في إظهاره على أحد غيره.
وقوله " إنه مركب من جنس مقدور العباد " لا يقدح في كونه ناقضا للعادة ولا في كونه معجزا، لان الاعجاز فيه هو من جملة البلاغة، وفيها يقع التفاوت بين البلغاء، ألا ترى أن الشعراء والخطباء يتفاضلون في بلاغتهم في شعرهم وخطبهم؟
فصح أن يكون في الكلام ما بلغ حدا في البلاغة ينقض به العادة في بلاغة البلغاء من العباد.
ويبين ذلك أن البلاغة في الكلام البليغ لا يحصل بقدرة القادر على إحداث الحروف المركبة، وإنما يظهر بعلوم المتكلم بالكلام البليغ، وتلك العلوم لا تحصل للعبد باكتسابه، وإنما يحصل له من قبل الله ابتداء، وعند اجتهاد العبد في استعمال ما يحصل عنده، وتلك العلوم من فعله تعالى، وقد أجرى الله عادته فيها بمنح العبد من العلوم للبلاغة، فلا يمنح من ذلك إلا مقدارا يتفاوت فيه