بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٨٩ - الصفحة ١٣١
من قال بالصرفة لا ينكر مزية القرآن على غيره بفصاحته، وإنما يقول: تلك المزية ليست مما تخرق العادة، وتبلغ حد الاعجاز، فليس في قبول الفصحاء وشهادتهم بفصاحة القرآن ما يوجب القول ببطلان الصرفة، وأما دخولهم في الاسلام فلامر بهرهم وأعجزهم، وأي شئ أبلغ من الصرفة في ذلك.
وأما القائلون بأن إعجازه الفصاحة قالوا: إن الله جعل معجزة كل نبي من جنس ما يتعاطا قومه، ألا ترى أن في زمان موسى عليه السلام لما كان الغالب على قومه السحر، جعل الله معجزته من ذلك القبيل، فأظهر على يده قلب العصا حية واليد البيضا، فعلم أولئك الأقوام بأن ذلك مما لا يتعلق بالسحر، فآمنوا، وكذلك زمان عيسى عليه السلام لما كان الغالب على قومه الطب جعل الله معجزته من ذلك القبيل فأظهر على يده إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فعلم أولئك الأقوام أن ذلك مما لا يوصل إليه بالطب، فآمنوا به.
وكذلك لما كان زمن محمد صلى الله عليه وآله الغالب على قومه الفصاحة والبلاغة، حتى كانوا لا يتفاخرون بشئ كتفاخرهم بها، جعل الله معجزته من ذلك القبيل فأظهر على يده هذا القرآن، وعلم الفصحاء منهم أن ذلك ليس من كلام البشر، فآمنوا به، ولهذا جاء المخصوصون فآمنوا برسول الله كالأعشى (1) مدح رسول الله صلى الله عليه وآله

(1) هو ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل بن عوف بن سعد بن ضبيعة بن قيس ابن ثعلبة بن الحصن بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل يكنى أبا بصير خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يريد الاسلام فقال يمدح رسول الله صلى الله عليه:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا * وعادك ما عاد السليم المسهدا وما ذاك من عشق النساء وإنما * تناسيت قبل اليوم خلة مهددا ومهد معشوقته، وفيها يقول لناقته:
فآليت لا أرثى لها من كلالة * ولا من حفا حتى تزور محمدا فبلغ خبره قريشا فرصدوه على طريقه وقالوا: هذا صناجة العرب - يعنى صاحب الصنج، لقب به لما كان في شعره من الجودة إذا أنشد أخذ بالأسماع كالصنج - ما مدح أحدا قط الا رفع في قدره، فلما ورد عليهم قالوا له: أين أردت يا أبا بصير؟ قال: أردت صاحبكم هذا لأسلم، قالوا: انه ينهاك عن خلال ويحرمها عليك، وكلها بك رافق ولك موافق، قال:
وما هن؟ فقال أبو سفيان بن حرب: الزنا، قال: لقد تركني الزنا وما تركته، ثم ماذا؟
قال: القمار، قال: لعلى ان لقيته أن أصيب منه عوضا من القمار، ثم ماذا؟ قال: الربا قال ما دنت ولا أدنت، ثم ماذا؟ قال: الخمر، قال: أوه! أرجع إلى صبابة قد بقيت لي في المهراس فأشربها (والمهراس حجر عظيم منقور يسع كثيرا من الماء) فقال له أبو سفيان:
هل لك في خير مما هممت به؟ قال: وما هو؟ قال: نحن وهو الان في هدنة، فتأخذ مائة من الإبل، وترجع إلى بلدتك سنتك هذه وتنظر ما يصير إليه أمرنا، فان ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفا، وان ظهر علينا أتيته، فقال: ما أكره هذا، فقال أبو سفيان: يا معشر قريش! هذا الأعشى والله لئن أتى محمدا واتبعه ليضرمن عليكم نيران العرب بشعره، فاجمعوا له مائة من الإبل، ففعلوا، فأخذها وانطلق إلى بلده، فلما كان بقاع منفوحة - قرية مشهورة من نواحي اليمامة - رمى به بعيره فقتله. راجع سيرة ابن هشام ج 1 ص 386 الأغاني ج 9 ص 125.
(١٣١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 126 127 128 129 130 131 132 133 134 135 136 ... » »»
الفهرست