حتى الطب في قوله: " كلوا واشربوا ولا تسرفوا " فهذا أصل الطب، والمحكم والمتشابه، والحقيقة والمجاز، والناسخ والمنسوخ، وهو مهيمن على جميع الكتب المتقدمة.
والعاشرة وجود قوام النظم في أجزائه كلها حتى لا يظهر في شئ من ذلك تناقض ولا اختلاف، وله خواص سواها كثيرة.
فان قيل: فهلا كانت ألفاظ القرآن كليتها مؤلفة من قبل الألفاظ الموجزة التي إذا وقعت في الكلام زادته حسنا، ليكون كلام الله عليه النظم الأحسن الأفضل إذ كان لا يعجزه شئ عن بلوغ الغاية كما يعجز الخلق عن ذلك.
الجواب: أن هذا يعود إلى أن كيف لم يرتفع أسباب التفاضل بين الأشياء حتى يكون كلها كشئ واحد متشابه الاجزاء والابعاض وكيف فضل بعض الملائكة على بعض، ومتى كان كذلك لم يوجد اختلاف الأشياء يعرف به الشئ وضده، على أنه لو كان كلام الله كما ذكر يخرج في صورة المعمى الذي لا يوجد له لذة البسط والشرح، ولو كان مبسوطا لم تبين فضيلة الراسخين في العلم على من سواهم، وأنه تعالى حكيم عليم بأن إلطاف المبعوث إليهم إنما هو في النمط الذي أنزله، فلو كان على تركيب آخر، لم يكن لطفا لهم.
ثم لنذكر وجها آخر للصرفة، وهو أن الامر لو كان بخلافه، وكان تعذر المعارضة والعدول عنه لعلمهم بفضله على سائر كلامهم في الفصاحة، وتجاوزه له في الجزالة، لوجب أن يقع منهم معارضة على كل حال، لان العرب الذين خوطبوا بالتحدي والتقريع، ووجهوا بالتعنيف والتبكيت، كانوا إدا أضافوا فصاحة القرآن إلى فصاحتهم، وقاسوا بكلامهم كلامه، علموا أن المزية بينهما إنما تظهر لهم دون غيرهم ممن نقص عن طبقتهم، ونزل عن درجتهم، دون الناس جميعا، ممن لا يعرف الفصاحة، ولا يأنس بالعربية، وكان ما عليه دون المعرفة لفصيح الكلام من أهل زماننا ممن خفي الفرق عليهم بين مواضع من القرآن وبين فقرات العرب البديعة، وكلمهم الغريبة، فأي شئ أقعد بهم عن أن يعتمدوا إلى بعض أشعارهم