لكن لم تنفعه وإنما تركها لعدم الانتفاع بها، وعدم تحقق شرط التقية فيه ويمكن أن يقرأ " منع " على بناء المعلوم أي ليس فعله مانعا للغير عن التقية لأنه اختار أحد الفردين المخير فيهما، أو لاختصاص الترك به لما ذكر، أو فعلها ولم تنفعه.
وبالجملة يبعد عن مثل ميثم ورشيد وقنبر وأضرابهم رفع الله درجاتهم بعد إخباره صلوات الله عليه إياهم بما يجري عليهم وأمرهم بالتقية، تركهم أمره عليه السلام ومخالفتهم له، وعدم بيانه عليه السلام لهم ما يجب عليهم حينئذ أبعد فالظاهر أنهم كانوا مخيرين في ذلك، فاختاروا ما كان أشق عليهم، ويؤيده ما رواه الكشي رحمه الله عن ميثم رضي الله عنه قال: دعاني أمير المؤمنين عليه السلام وقال لي: كيف أنت يا ميثم إذا دعاك دعي بني أمية عبيد الله بن زياد إلى البراءة مني؟
فقلت: يا أمير المؤمنين أنا والله لا أبرء منك، قال: إذا والله يقتلك ويصلبك فقلت: أصبر فذاك في الله قليل، فقال: يا ميثم إذا تكون معي في درجتي (1).
وروى أيضا عن قنوا بنت رشيد الهجري قالت: سمعت أبي يقول: أخبرني أمير المؤمنين صلوات الله عليه فقال: يا رشيد كيف صبرك إذا أرسل إليك دعي بني أمية فقطع يديك ورجليك ولسانك؟ قلت: يا أمير المؤمنين آخر ذلك إلى الجنة؟
فقال: يا رشيد أنت معي في الدنيا والآخرة، قالت: والله ما ذهبت الأيام حتى أرسل إليه عبيد الله بن زياد الدعي فدعاه إلى البراءة من أمير المؤمنين عليه السلام فأبى أن يتبر أمنه، وقال له الدعي: فبأي ميتة قال لك تموت؟ فقال له: أخبرني خليلي أنك تدعوني إلى البراءة فلا أبرأ منه، فتقدمني فتقطع يدي ورجلي ولساني فقال: والله لأكذبن قوله قال: فقدموه فقطعوا يديه ورجليه وتركوا لسانه، فحملت أطرافه يديه ورجليه، فقلت: يا أبت هل تجد ألما لما أصابك؟ فقال لا يا بنية إلا كالزحام بين الناس، فلما احتملناه وأخرجناه من القصر اجتمع الناس حوله فقال: ائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم ما يكون إلى يوم القيامة فأرسل إليه الحجام حتى قطع لسانه فمات رحمة الله عليه في ليلته (2).