صلاحهم منوطا بهمته العالية نسب الخوف عليهم إلى نفسه القدسية (اتباع الهوى) هو ميل النفس الأمارة بالسوء إلى مقتضاها من اللذات الدنيوية خصوصا إذا كانت خارجة عن القوانين الشرعية (وطول الأمل) لما لا ينبغي من المقتضيات الفانية (أما اتباع الهوى فيصد عن الحق) لأن اتباع النفس الأمارة في مقتضياتها والاقتفاء بها في لذاتها أعظم جاذب للإنسان عن قصد الحق وأفخم ساد له عن سلوك سبيله (وأما طول الأمل فينسي الآخرة) لأنه يوجب شغل الفكر فيما يؤمله ويرجوه وفي كيفية تحصيله وضبطه بعد حصوله وكيفية العمل به ويورث سهو القلب عما هو أولى به من أمر معاده ومن ذكر الله وذكر ما بعد الموت من أحوال الآخرة ومحو ما تصور منها في الذهن وذلك معنى النسيان لها الموجب للشقاء الأبدي فيها.
(ألا إن الدنيا قد ترحلت مدبرة) الرحل الانتقال يقال: ترحم القوم عن المكان إذا انتقلوا، وفيه إشارة إلى تقضي الأحوال الحاضرة بالنسبة إلى كل شخص من صحة وشباب وجاه ومال وكل ما يكون سببا لصلاح حاله فإن كل ذلك أجزاء الدنيا لدنوها منه ولما كانت هذه الأمور أبدا في التغير والتقضي المقتضي لمفارقته لها وبعدها عنه لا جرم حسن إطلاق اسم الترحل والإدبار على تقضيها وبعدها استعارة تشبيها لها بالحيوان في إدبارها والغرض هو الحث على ترك الركون إليها والعكوف عليها وصرف العمر فيها.
ولما نبه على أن الدنيا سريعة الزوال أردف ذلك بالتنبيه على سرعة لحوق الآخرة وإقبالها بقوله (وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة) لما كانت الآخرة عبارة عن الدار الجامعة للأحوال التي يكون كل شخص عليها من سعادة وشقاوة وألم وراحة وكان تقضي العمر والدنيا موجبا للوصول إلى تلك الدار والحصول فيما يشتمل عليه من خير أو شر حسن إطلاق الترحل والإقبال عليها مجازا وبالجملة أحوال الإنسان إذا كانت مقتضية يطلق عليها اسم الإدبار وإذا كانت متوقعة يطلق عليها اسم الإقبال (ولكل منهما بنون) استعار اسم الابن للخلق بالنسبة إلى الدنيا والآخرة ولفظ الأب لهما ووجه الاستعارة أن الابن لما كان من شأنه الميل إلى الأب إما بالطبع أو بتصور المنفعة وكان وكان الخلق منهم من يريد الدنيا لما يتوهم من لذة وخير فيها ومنهم من يريد الآخرة لما يتصور من لذة وسعادة فيها ويميل كل منهما إلى مراده شبههم بالابن وشبهها بالأب فاستعار لفظ الابن والأب لهما بتلك المشابهة ولما كان غرضه عليه السلام حث الخلق على الآخرة والميل إليها والرغبة فيها والإعراض عن الدنيا وحطامها قال: (فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا) لدوام الآخرة ولذاتها وفناء الدنيا وزهراتها ثم حث على العمل في الدنيا للآخرة للوصول إلى نعيمها ودرجاتها والتحرز عن حسابها وعقوباتها فقال (فإن اليوم عمل ولا حساب وإن غدا حساب ولا