احتمال آخر بعيد وهو أن يراد بالنفس الثانية النفس المطمئنة وبالأولى النفس الأمارة وهي محل التهمة لأنها كثيرا ما ترى أن الشر خير والخير شر ويحكم على العابد بأن عبادته مقبولة قطعا واقعة على حد الكمال الموصل إلى المطلوب وهذا الوهم مبدأ للتعجب بالعبادة والتقاصر عن الازدياد والخروج عن التقصير وغير ذلك من المفاسد وكل ذلك من المهلكات (ولا تأتمن ولدك على دينك) مع أنه أقرب الناس منك وأشفقهم لك فغيره أولى بعدم الايتمان منه. وفيه حث على التقية والتقية دين جميع المرسلين والصالحين والأخبار فيه كثيرة بعضها مذكور في كتاب الأصول (إلا أن يكون ولدك مثلك يحب الصالحين) دل على جاز إظهار الدين للقابلين له والصالحين وهو كذلك ليبقى في الآخرين والروايات الدالة عليه بل على وجوبه أيضا كثيرة.
(يا موسى اغسل واغتسل واقترب من عبادي الصالحين) كأنه أمره (عليه السلام) بغسل الباطن من الرذايل والعيوب وغسل الظاهر من الأخباث والذنوب أو بالوضوء من الأصغر والغسل من الأكبر أو بالجميع وفيه ترغيب في مجالسة الصالحين ومخالطتهم وهم الذين يوجب ذكر الله تعالى رؤيتهم ويزيد في العلم منطقهم (يا موسى كن إمامهم في صلاتهم) أمر بالجماعة فيها أو بتعليم أحكامها أو بالجميع (وإمامهم فيما يتشاجرون) أي يتنازعون من أمور دينهم ودنياهم (واحكم بما أنزلت عليك) الظاهر أن وجوب الحكم بما أنزله الله تعالى غير مختص بالنبي والوصي وأن من حكم بالاجتهاد والرأي بغيره فهو من الفاسقين كما دل عليه القرآن المبين والتخصيص لابد له من مخصص إلا أن يدعى أن الحكم الاجتهادي المخالف أيضا مما أنزله الله تعالى. وهو كما ترى مع أنه أيضا يحتاج إلى دليل آخر (فقد أنزلته حكما بينا متضحا ظاهرا غير مشتبه.
(وبرهانا نيرا) حجة مشرقة دلالته ظاهرة على ما فيه من الأحكام وغيرها داعية للخلق إليها (ونورا ينطق بما كان في الأولين وبما هو كائن في الآخرين) النور هو الظاهر بنفسه لضيائه وشعاعه والمظهر لغيره لإضاءة انارته، شبهه بالنور واستعار له لفظه استعارة تحقيقية باعتبار الاهتداء به في سلوك سبيل الله إلى المطالب الحقيقية والأسرار اليقينية والأحكام الربوبية وشبه دلالته على ما كان فيه بنطق الناطق واستعار له لفظ ينطق استعارة تبعية والمراد بالأولين والآخرين الموجودون في عصره (عليه السلام) والذين يوجدون بعده إلى قيام شريعته أو من لدن آدم (عليه السلام) إلى آخر الدهر (أوصيك يا موسى وصية الشفيق المشفق) الوصية العهد والأمر بحفظه والشفق محركة الشفقة والرأفة وحرص الناصح على صلاح المنصوح وهو شفيق ومشفق والتكرير للمبالغة أو المراد الشفيق المشفق على الناس (بابن البتول عيسى بن مريم) سميت مريم بتولا لانقطاعها عن الرجال ولم يكن لها شهوة فيها وأما فاطمة عليها السلام فسميت بتولا لانقطاعها عن نساء زمانها فضلا ودينا ونسبا، وقيل: لانقطاعها عن الدنيا إلى الله تعالى (صاحب الإتان والبرنس) الإتان