(ولا تركنوا إلى ما في هذه الدنيا ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان) الركون الميل والسكون وفعله من باب علم ونصر ومنع والمراد أن الدنيا مذمومة من هذه الجهة وهي الرضا بذاتها واتخاذها وطنا ودار إقامة كما يتخذها كذلك أبناء الدنيا وإلا فهي ممدوحة من حيث أنها محل للعبادة واتخاذ زاد الآخرة وما فيها سبب للقوة عليهما وإلى هذا أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله:
«ولنعم دار من لم يرض بها دارا ومحل من لم يوطنها محلا».
(والله أن لكم مما فيها عليها لدليلا وتنبيها من تصريف أيامها وتغير انقلابها ومثلاتها وتلاعبها بأهلها) لعل المراد من تصريف أيامها ذهاب قوم ومجئ آخرين، لا في الذاهبين رجوع إلى الدنيا ولا في الآخرين سكون فيها ويتغير انقلابها تغير الأمن والصحة والرخاء والسراء ونحوها إلى الخوف والسقم والشدة والضراء وبالعكس، وبمثلاتها صورها وأشكالها وشدائدها وهي جمع المثلة بفتح الميم وضم الثاء بمعنى العقوبة والشدائد ويتلاعبها بأهلها عرض زينتها وأسبابها عليهم فإذا ركنوا إليها أدبرت عنهم كما أدبرت عن الماضين أو البأس أسبابها الخسيسة بالصور الحسنة وتزيينها عند أهلها وهذا العمل شبيه بالملاعبة وفي الصيغة الدالة على وقوع الفعل من الطرفين دلالة على وقوعه منها على وجه الكمال وهذا العمل كما يسمى ملاعبة كذلك يسمى خدعة وغرارا على سبيل المكنية والتخييلية وفيه ترغيب لتنبيه اللبيب في الإتعاظ من تصاريفها وتقلبها على أهلها وتغيراتها وعدم ثباتها على وجه واحد كما تشهد عليه الديار الخاوية والمنازل الخالية فإن المنتبه إذا عرف هذه الأمور اتعظ بها وعبر منها ولا يركن إليها.
(أنها لترفع الخميل وتضع الشريف وتورد أقواما إلى النار غدا) بإعطاء لذاتها الموجبة للدخول فيها ونسبة أمثال هذه الأفعال إلى الدنيا باعتبار أنها سبب متأدي لها والمراد بالخميل من خفي ذكره وصوته والساقط الذي لا نباهة له، وهذه الفقرة يحتمل أن يكون بيانا لما قبلها فإن مضمونها شبه الملاعبة.
(وفي هذا معتبر ومختبر وزاجر) أي ما ذكر من تصريف أيام الدنيا إلى آخره اعتبار وإختبار أو محل لهما، زاجر عن الميل إليها لمنتبه عاقل. وخصصه بالذكر لكونه المقصود بالخطاب وكل ذلك ظاهر لأن الدنيا ماضية بأهلها على طريقة واحدة وحالها مع القرون الباقية كحالها مع القرون الماضية والمنتبه إذا نظر إلى آفات الدنيا وتغيراتها والعقوبات النازلة فيها على اتخذها دار إقامة وشاهد أن كل ذلك أمور باطلة وأظلال زائلة ظهر في قلبه نور يمنعه عن التقحم فيها والركون إليها.
(أن الأمور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مظلمات الفتن) الظاهر أن من بيانية للأمور مع احتمال أن يكون ابتدائية لبيان منشأها والإضافة من باب جرد قطيفة، وفي بعض النسخ «من