ثم اعلم، يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أو كرهت.
وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا (1) تغتنم أكهلهم فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك صفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك! وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم، ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنه لا يدي لك بنقمته (2)، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة (3)، ولا تسر عن إلى بادرة (4) وجدت منها مندوحة، ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع فإن ذلك إدغال في القلب، ومنهكة للدين، وتقرب من الغير. (5) وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك; فإن ذلك يطامن إليك من طماحك، ويكف عنك من غربك، ويفئ إليك بما عزب عنك من عقلك. (6) إياك ومساماة الله في عظمته (7) والتشبه به في جبروته; فإن الله يذل كل جبار، يهين كل مختال.