وقالوا إن هؤلاء الصحابة الذين اعتزلوا الطائفتين، أرجئوا الحكم في أي الطائفتين أحق، وفوضوا أمورهم إلى الله تعالى، وعلى هذا تكون هذه الطائفة من الصحابة أول من وضع بذرة الإرجاء.
ومن وجهة نظري فأنا لا أوافق على هذا التصور، لأن من الصحابة من تأول الأحداث بصورة خاطئة ثم ندم بعد ذلك. ومنهم من كان يخاف من سيوف الجلادين، ويعلم أنهم سيجلسون على الكراسي الأولى في نهاية الأحداث كما أخبر النبي. فآثر الصمت والسكون ومنهم من اكتفى بمراقبة الأحداث من بعيد، خوفا على رأسه من سيف أبي الحسن في الوقت الذي كان يحشد فيه الناس ليقفوا وراء معاوية. وبالجملة: لم يكن هناك إرجاء، وإنما كانت هناك مصالح.
ولا يوجد صحابي اعتزل القتال إلا وهو يعلم أن عليا كان صاحب الحق في جميع معاركه التي خاضها. ولا يوجد صحابي وضع عليا في كفة ومعاوية في كفة ليرى أيهما أرجح. فأين الإرجاء والنبي صلى الله عليه وسلم ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، والأحداث في عهد الصحابة كان فيها من الله برهان يجذب العقل إليه ويدعوه إلى التمييز؟ والقول بأن الصحابة كانوا يخافون من الوقوع في الفتن فأرجئوا الحكم في الأحداث إلى الله تعالى، لا يتعادل من أصناف الفتن، يقول تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) (1) فهل خافوا من الوقوع في هذه الفتن؟ إن التاريخ لم يسجل ذلك للكثير منهم. فلماذا خافوا هناك ولم يخافوا هنا. ثم كيف يهربون من الفتن وتحت سقفها يختبر الله تعالى عباده، قال تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) (2).
إن الله تعالى يبتلي ما في الصدور، ويمحص ما في القلوب بأحداث تجري على صفحة الوجود. ومخاصمة الفتن في القرن الأول لا يستقيم مع حركة هذا الوجود، لأن هناك أحداث لا بد فيها من القتال حتى لا تكون فتنة ويكون الدين