إذ أن الذين رووا هذه القصة، هم أنفسهم الذين رووا ما بعدها، فإليك البيان والتفصيل.
قال ابن قتيبة: وذكروا أنه لما بلغ أبا جعفر المنصور ضرب مالك بن أنس وما أنزل به جعفر بن سليمان، أعظم ذلك إعظاما شديدا وأنكره ولم يرضه، وكتب بعزل جعفر بن سليمان عن المدينة وأمر أن يؤتى به إلى بغداد على قتب.
ثم كتب إلى مالك بن أنيس ليستقدمه إلى نفسه ببغداد، فأبى مالك، وكتب إلى أبي جعفر يستعفيه من ذلك ويعتذر له بعض العذر إليه، فكتب أبو جعفر إليه أن وافني بالموسم العام القابل إن شاء الله فإني خارج إلى الموسم (1).
فإذا كان أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي يعزل ابن عمه جعفر بن سليمان بن العباس عن ولاية المدينة من أجل ضرب مالك فهذا يبعث على الشك والتأمل .
إذ أن ضرب جعفر بن سليمان لمالك لم يكن إلا لتأييد خلافة ابن عمه وتدعيم ملكه وسلطانه، فكان الواجب على أبي جعفر المنصور إكرام الوالي وترقيته، لا عزله وإهانته بتلك الطريقة، فقد عزله وأمر بإقدامه على شر حال مكبلا بالأغلال على قتب ، ثم يبعث الخليفة بنفسه اعتذاره إلى مالك لكي يسترضيه! إنه أمر عجيب!
ويفهم من ذلك بأن والي المدينة جعفر بن سليمان تصرف الحمقى الذين لا يعرفون من السياسة ودهائها شيئا، ولم يفهم بأن مالكا هو عمدة الخليفة وركيزته في الحرمين الشريفين، وإلا ما كان ليعزل ابن عمه من الولاية لأنه ضرب مالكا الذي استحق ذلك من أجل فتواه بحرمة بيعة الإكراه.
وهذا ما يقع اليوم أيضا بين ظهرانينا وأمام أعيننا عندما يحاول بعض الولاة إهانة شخص ما وسجنه لتدعيم هيبة الدولة وسلامة أمنها، فإذا بذلك الشخص يكشف عن هويته وإذا به من أقارب السيد الوزير أو من معارف