الكتاب المقدس - مجمع الكنائس الشرقية - الصفحة ٢٨٥
يحسن التنبه له أن يوحنا روى أحداثا كثيرة وردت في الأناجيل الإزائية: ويصح هذا القول على وجه خاص في نشاط يوحنا المعمدان والمعمودية في الأردن وعدة معجزات، ولا سيما معجزة تكثير الأرغفة (1 / 19 - 51 و 2 / 13 - 21 و 6 / 1 - 21). وهناك جملة أخبار الآلام والقيامة (12 - 21).
وإذا قارنا بين هذه الأجزاء، أمكننا أن نستنتج أن يوحنا توخى أحداثا يعرفها التقليد وأنه رواها بصدق، لا بل أتى في عدة أمور بمواد طريفة يمكن الاعتماد عليها. فالإشارات الجغرافية والزمنية والأخبار عن المؤسسات اليهودية والرومانية تدل كلها على معرفة لشؤون الحياة في أوائل القرن الأول (وقد زالت تلك الأحوال بعد حرب 66 - 72)، مع أن يوحنا كان بعيدا جدا عنها. ومعنى ذلك أنه عني بالتزام الأحوال التاريخية التي عاش فيها يسوع، فلسنا أمام قصة لاهوتية. والإنجيل يتكلم على كائن عاش ومات وقام في زمن معروف (2 / 20) ويوحنا عالم بما يقول فيه التقليد. ومن جهة أخرى فإن يوحنا يعد نفسه شاهدا، أو على الأقل كانوا يعدونه كذلك (19 / 35 و 21 / 24)، وهذا ما يقتضي أن يشهد الإنسان على أحداث أو حقائق له معرفة شخصية بها ويتخذ موقفا منها. فإذا صح أن الرسالة تتناول في الأساس أن " الكلمة صار بشرا وسكن بيننا " حتى أننا " رأينا مجده "، أدركنا ما في الحقيقة التاريخية المروية من أهمية لا مثيل لها. فيوحنا يوضح معنى ما حدث في يسوع المسيح، ولذلك فإن كتابه يبدو أولا رواية لسلسلة آيات اختارها من بين الكثير من الآيات (20 / 30 - 31 و 21 / 25). وبذلك يدخل الإنجيلي في فن التقليد الكتابي الكبير الذي يصف، مرحلة بعد مرحلة، رواية علاقة الله بشعبه، كأنها رواية أعمال الله في داخل تاريخ البشر. إن إسرائيل فضل دائما الحدث على " الكلمة ".
فلا يكفي أن يروي الإنجيلي مجرد أحداث، بل عليه أن يستخلص معناها (راجع 9 / 1 - 41) ويدرك مداها وعمقها، لكي يستطيع التلاميذ أن يتقدموا في المعرفة وينفتحوا للحياة الأبدية. وتروى الآيات " لتؤمنوا بأن يسوع هو المسيح ابن الله ولتكون لكم إذا آمنتم الحياة باسمه " (20 / 30 - 31).
ويعلم يوحنا أن هذا التفهم التدرجي لم يحصل عليه إلا بالنظر إلى سر الفصح. فكان لا بد أن يجتاز المسيح إلى المجد الكامل بعد مروره بالصليب، لكي يظهر ما في حياة يسوع وفي أصغر عمل من أعماله من معنى عميق. كان لا بد في الوقت نفسه من موهبة روح الحق وهو ثمرة الفصح (7 / 39 و 16 / 7 و 20 / 22)، فالروح يسير بالمؤمنين إلى معرفة الحق كله، أي إلى إدراك كل ما فيه حقيقة وعمل يسوع ابن الله المتجسد (16 / 5 - 15). ذلك ما رسب في ذاكرة يوحنا: عودة إلى يسوع بحذافيرها لإدراك معناها (2 / 21 - 22 و 12 / 16 و 14 / 26 و 15 / 26 - 27).
نحصل على هذا التفهم، وفقا لتقليد مسيحي وجيه، إن ربطنا الأحداث التي عاشها يسوع بما في العهد القديم من أحداث وأقوال نبوية تنال بذلك معناها الحقيقي (2 / 17 و 5 / 37 - 47 و 7 / 17 و 12 / 16 و 37 - 41 و 19 / 24 و 28 و 36 - 37). لقد أدرك يوحنا أكثر من أي واحد ما للحقائق الظاهرة في يسوع من جدة لا حد لها، فعبر عنها وفقا لمناهج ذات طراز مسيحي.
فنحن إذا أمام طريقة لا تردد في طابعها التاريخي، وإن اختلفت اختلافا كبيرا عن الطرق أو المتطلبات الخاصة بالمؤرخين الوضعيين الذين يجعلون اهتمامهم في سرد الأحداث سردا دقيقا، لا في
(٢٨٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 280 281 282 283 284 285 286 287 288 289 290 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة