وجود العالم بعد العدم عند الإمامية - السيد قاسم علي الأحمدي - الصفحة ١٦٥
الثاني:
إن كانت فاعليته تعالى للأشياء بنحو العلية والترشح فلابد أن تكون هناك سنخية بينه تعالى وبين خلقه - وهو المعلول - لأن من الواجب أن يكون بين العلة الفائضة ومعلولها - الذي يكون رشحا من ذاتها - سنخية ذاتية، ولا يخفى أن الدليل العقلي والنقلي من الآيات المتظافرة والروايات المتواترة وردت في نفي السنخية بينه تعالى وبين خلقه، بل لا يكون معرفة التوحيد الحقيقي إلا بمعنى معرفة تنزه وجوده تعالى وتعاليه عن خلقه وتباينهما، والشرك أيضا لا يكون إلا بمعنى الاعتقاد بالتشابه بين الخالق والمخلوق، ولا يكون التوحيد الحقيقي بمعنى الوحدة العددية (1).

(١) أقول: لا ريب أنه سبحانه وتعالى لا يشبه شيئا من المخلوقين، إذ هو مباين لهم في ذاتهم وأوصافهم، ومنزه عن مجانسة مخلوقاته.. وهذا هو العمدة في باب معرفة الله تعالى، وبه تمتاز المعارف الإلهية الحقة عن غيرها من المعارف البشرية، وقد وردت الأحاديث المتواترة من المعصومين (عليهم السلام) على التباين الكلي ذاتا وصفة بينه تعالى وبين خلقه.
أما الحجة العامة من كلام الله تعالى فقوله عز وجل: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) * دل على أن الله خالق وغيره مخلوق، والخالق لا يجوز أن يكون من سنخ المخلوق - لأنه لو كان الخالق من سنخه وبأوصافه لجرى حكم المخلوق من الاحتياج والفقر والعجز و.. على الله تعالى أيضا، وهو خلاف حقيقته عز وجل، فيحكم العقل بأن الذي ليس بمخلوق ليس من سنخه، ولا يشبهه ولا يجري فيه ما يجري فيه.. - وأن هذا الحكم فطري يكفي تذكر ما هو المفطور في العقل في تصديقه، وهذا القدر كاف للعامة إذ لم يسبق ذهنهم بالشبهات.
وأما الحجة من كلام الأئمة المعصومين (عليهم السلام) في نفي السنخية فكثيرة جدا، نشير إلى نزر يسير منها:
* فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: ".. يا من دل على ذاته بذاته، وتنزه عن مجانسة مخلوقاته.. ". (بحار الأنوار ٨٧ / ٣٣٩ حديث ١٩، و ٩٤ / ٢٤٣ حديث ١١) أقول: تنزه أي تباعد وتقدس عن مجانسة مخلوقاته.
* وعن الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) في قوله: ".. أنت الذي أنشأت الأشياء من غير سنخ.. ". (الإقبال: ٣٥١) * وقول مولانا أبي الحسن الرضا (عليه السلام): ".. خلق الله الخلق حجاب بينه وبينهم، ومباينته إياهم مفارقته إنيتهم... وكنهه تفريق بينه وبين خلقه... مبائن لا بمسافة... فكل ما في الخلق لا يوجد في خالقه وكل ما يمكن فيه يمتنع من صانعه.. ". (التوحيد: ٣٤ - ٣٥، بحار الأنوار ٤ / ٢٢٨ حديث ٣.) أقول: صرح الإمام (عليه السلام) في هذا الحديث بأن مباينته تعالى إياهم ليس بحسب المكان، بل إنما هي بأن فارق إنيتهم.
وقوله (عليه السلام): " وكنهه تفريق بينه وبين خلقه.. " أظهر ما في هذا الباب من التصريح والإظهار لمذهب الأئمة (عليهم السلام) من أن توحيده تعالى هو المباينة بينه وبين خلقه.
* وعنه (عليه السلام): ".. لا تشمله المشاعر، ولا يحجبه الحجاب، فالحجاب بينه وبين خلقه لامتناعه مما يمكن في ذواتهم، ولإمكان ذواتهم مما يمتنع منه ذاته، ولافتراق الصانع والمصنوع، والرب والمربوب، والحاد والمحدود.. ". (بحار الأنوار ٤ / ٢٨٤ حديث ١٧) * عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): ".. لا يليق بالذي هو خالق كل شئ إلا أن يكون مباينا لكل شئ، متعاليا عن كل شئ، سبحانه وتعالى ". (بحار الأنوار ٣ / ١٤٨ حديث ١) * وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): ".. حد الأشياء كلها عند خلقه إياها إبانة لها من شبهه، وإبانة له من شبهها.. ". (بحار الأنوار ٤ / ٢٦٩ حديث ١٥) * وعنه (عليه السلام): ".. مباين لجميع ما أحدث في الصفات، وممتنع عن الإدراك بما ابتدع من تصريف الذوات.. ". (التوحيد: ٦٩ حديث ٢٦، بحار الأنوار ٤ / ٢٢٢ حديث ٢) * وعنه (عليه السلام): ".. لا يقال له كان بعد أن لم يكن فتجري عليه الصفات المحدثات، ولا يكون بينها وبينه فصل، ولا له عليها فضل فيستوي الصانع والمصنوع.. ". (بحار الأنوار ٤ / ٢٥٥ حديث ٨) * وعنه (عليه السلام): ".. دليله آياته، ومعرفته توحيده، وتوحيده تمييزه من خلقه، وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة، إنه رب خالق غير مربوب مخلوق، كل ما تصور فهو بخلافه.. ". (الاحتجاج: ٢٩٩، بحار الأنوار ٤ / ٢٥٣ حديث ٧) أقول: لا يخفى أن قوله (عليه السلام): " توحيده تمييزه من خلقه.. " يفيد أنه سبحانه ممتاز عن خلقه بالحقيقة في شؤونه ولا سنخية بينه تعالى وبين خلقه بوجه، وقال العلامة المجلسي (رحمه الله) قوله (عليه السلام): " بينونة صفة.. " أي تميزه عن الخلق بمباينته لهم في الصفات لا باعتزاله عنهم في المكان. (بحار الأنوار ٤ / ٢٥٣ حديث ٧) * عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: " هو واحد أحدي الذات، بائن من خلقه وبذلك وصف نفسه وهو بكل شئ محيط بالإشراف والإحاطة والقدرة.. ". (بحار الأنوار ٣ / ٣٢٢ حديث ١٩) * وعنه (عليه السلام): ".. هو بائن من خلقه، محيط بما خلق علما وقدرة وإحاطة وسلطانا.. ".
(بحار الأنوار ٣ / ٣٢٣ حديث ٢٠) أقول: هنا أخبار كثيرة دالة على أنه تعالى خلو من خلقه.. ونحن نذكر جملة منها:
* عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): " اسم الله غير الله، وكل شئ وقع عليه اسم شئ فهو مخلوق ما خلا الله... والله خلو من خلقه وخلقه خلو منه.. ". (التوحيد: ١٤٢ حديث ٧) * وعنه (عليه السلام): " إن الله تبارك وتعالى خلو من خلقه وخلقه خلو منه، وكل ما وقع عليه اسم شئ ما خلا الله عز وجل فهو مخلوق، والله خالق كل شئ تبارك الذي ليس كمثله شئ. ". (التوحيد: ١٠٥ حديث ٣، بحار الأنوار ٤ / ١٤٩ حديث ٣، ٤) * وعنه (عليه السلام): " واحد صمد أزلي صمدي... لا خلقه فيه ولا هو في خلقه.. ".
(التوحيد: ٥٧ حديث ١٥) * عن مولانا أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في مناظرته مع عمران الصابي: قال عمران: لم أر هذا إلا أن تخبرني يا سيدي أهو في الخلق؟ أم الخلق فيه؟ قال الرضا (عليه السلام): " جل هو - يا عمران! - عن ذلك، ليس هو في الخلق ولا الخلق فيه، تعالى عن ذلك.. ". (عيون الأخبار ١ / ١٧٣) .. إلى غير ذلك من الآيات والأخبار المنساقة على طبق الفطرة المستقيمة الدالة على نفي المشابهة.
أقول: إن هذه الطائفة من الأخبار مسوقة لإبطال ما يمكن أن يتوهم من أن معنى خلقه تعالى الخلق هو: تنزله تعالى وتطوره بأطوار خلقه بأي معنى يفترض. فظهر بطلان القول بالسنخية بين الخالق والمخلوق كما عليه الفلاسفة، فإنهم قالوا:
إن السنخية بين الفاعل وفعله مما لا يعتريه ريب، ولا يتطرق إليه شائبة دغدغة، ويعبرون عنها بالسنخية بين العلة ومعلولها.. انظر: التعليقات على كشف المراد: ٥٠٦، لحسن زاده الآملي.
وقالوا:.. من الواجب أن يكون بين المعلول وعلته سنخية ذاتية.. انظر: نهاية الحكمة:
١٦٦
، بداية الحكمة: ٨٧.
(١٦٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 154 157 158 159 159 165 168 169 170 171 172 ... » »»
الفهرست