تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى). ورد في الحديث: إن الله مسح ظهر آدم وأخرج ذريته منه كهيئة الذرة واستخرج الذر من مسام شعر آدم، فخرج الذر كخروج العرق.
وقيل: كان المسح من بعض الملائكة فأضاف الفعل إلى المسبب، وقيل: معنى القول بأنه مسح أي: أحصى كما يحصى الأرض بالمساحة، وكان ذلك ببطن نعمان - وهو واد بجنب عرفة بين مكة والطائف - فلما خاطب الله الذرة وأجابوا ببلى كتب العهد في رق أبيض، وأشهد عليه الملائكة وألقمه الحجر الأسود، وكانت ذرة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي المجيبة من الأرض، والعلم والهدى فيه معجونان، فبعث بالعلم والهدى مورثا له وموهوبا. وقيل: لما بعث الله تعالى جبرئيل وميكائيل ليقبضا قبضة من الأرض فأبت حتى بعث الله عزرائيل فقبض قبضة من الأرض، وكان إبليس قد وطئ بقدميه، فصار بعض الأرض بين قدمه وبعض الأرض موضع أقدامه، فخلقت النفس مما مس قدم إبليس، فصارت مأوى الشر، وبعضها لم يصل إليه قدم إبليس، فمن تلك الأرض تربة أصل الأنبياء والأولياء.
فكانت ذرة رسول الله صلى الله عليه وسلم موضع نظر الله سبحانه وتعالى من قبضة عزرائيل، لم يمسها قدم إبليس فلم يصبه حظ الجهل، بل صار منزوع الجهل موفرا حظه من العلم والهدى، فبعثه الله تعالى بالهدى والعلم وانتقل من قلبه إلى القلوب ومن نفسه إلى النفوس، فوقعت المناسبة في أصل طهارة الطينة ووقع التأليف بالتعارف الأول، فكل من كان أقرب منه مناسبة بنسبة طهارة الطينة كان أوفر حظا من قبول ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت قلوب الصوفية أقرب منها مناسبة، فأخذت من العلم حظا وافرا وصارت بواطنهم أخاذات، فعلموا وعملوا كالأخاذ التي يسقى منه ويزرع منه، وجمعوا بين فائدة علم الدراسة وعلم الوراثة فائدة بإحكام أساس التقوى، فلما تركت النفوس انجلت مرائي قلوبهم بما صقلها من التقوى، وانجلى فيها صور الأشياء على هيآتها وماهيتها، فبانت لهم الدنيا بقبحها فرفضوها، وظهرت الآخرة بحسنها فطلبوها،