يصف أحد الرواة الأجلاء كيف احتاج إلى مسألة شرعية، فاضطر إلى استعمال الحيلة لكي يصل إلى الإمام الصادق عليه السلام ليسأله عنها: قال هارون بن خارجة: كان رجل من أصحابنا طلق امرأته ثلاثا، فسأل أصحابنا فقالوا: ليس بشئ. فقالت امرأته: لا أرضى حتى تسأل أبا عبد الله عليه السلام وكان بالحيرة إذ ذاك أيام أبي العباس. قال: فذهبت إلى الحيرة ولم أقدر على كلامه إذ منع الخليفة الناس من الدخول على أبي عبد الله عليه السلام، وأنا أنظر كيف ألتمس لقاءه، فإذا سوادي (أي رجل من أهل العراق، وكان العراق يسمى السواد) عليه جبة صوف يبيع خيارا، فقلت له: بكم خيارك هذا كله؟ قال: بدرهم. فأعطيته درهما وقلت له: أعطني جبتك هذه، فأخذتها ولبستها وناديت: من يشتري خيارا! ودنوت منه، فإذا غلام من ناحية ينادي: يا صاحب الخيار. فقال عليه السلام لي لما دنوت منه: ما أجود ما احتلت! أي شئ حاجتك؟. قلت: إني ابتليت فطلقت أهلي ثلاثا في دفعة، فسألت أصحابنا فقالوا ليس بشئ. وإن المرأة قالت لا أرضى حتى تسأل أبا عبد الله عليه السلام، فقال: إرجع إلى أهلك فليس عليك شئ. (الخرائج: 2 / 642 والبحار: 47 / 171) في مثل هذه الأجواء كان يعيش الإمام الصادق عليه السلام، وعندما سنحت له فرصة قصيرة ظهر منه من العلوم ما ملأ الآفاق، من بحوث التوحيد ونفي التعطيل والتجسيم والتشبيه، إلى بحوث علم الباري تعالى وقدرته وإرادته ومشيئته، إلى بحث الذات المقدسة، والصفات والأفعال والأسماء..
إلى مباحث العقل، والمعاد، والنبوة العامة والخاصة، وتاريخ الأنبياء عليهم السلام، ومباحث الإحتجاجات في الإمامة الكبرى وتطبيقها.. إلى المباحث المتعلقة بالسماء والعالم، مضافا إلى بحوث الفقه من باب الطهارة إلى الديات، في كل أبواب العبادات والمعاملات.
ظهر منه في هذه الفترة القصيرة ما ملأ العالم، من أعلى العلوم وأبواب