شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣٢ - الصفحة ٣٠٦
وسنرى ونحن نتتبع مشاهد البطولة في حياة الإمام، كيف كان حرصه الشديد على شرف المقاتل آثر وأبقى من غلبة ومن كل انتظار.
ومن المفارقات العجيبة لشخصيته، أن براعة المقاتل فيه، كانت تزلزل خصومه خوفا وهلعا في حين شرف المقاتل فيه، كان يملأ نفوسهم طمأنينة وأمنا.
أجل لطالما تحولت نقمته على أعدائه إلى رحمة بهم بسبب إيمانه الحق بأن القتال الشريف، النبيل، العادل، هو وحده سبيل الرجال، إذا اضطروا لقتال.
بعد أن تحقق له النصر في موقعة الجمل، وقبل أن تبدأ موقعة صفين وكان لا يزال يرجوا أن يفئ معاوية إلى الحق، على الرغم من كل الشواهد التي كانت تنبئ بإصراره على موقفه وإعداده العريض للحرب والقتال يومئذ علم الإمام أن اثنين من كبار أنصاره يجهران بشتم معاوية، ولعن أهل الشام هما، حجر بن عدي وعمر بن الحمق، فأرسل إليهما آمرا أن يكفا عن هذا الشتم وهذا اللعن، فقدما عليه وسألاه: يا أمير المؤمنين! ألسنا على الحق، وهم على الباطل؟ أجابهم الإمام: بلى، ورب الكعبة. قالوا: فلم تمنعنا من شتمهم ولعنهم؟ قال الإمام: كرهت لكم أن تكونوا شتامين لعانين ولكن قولوا: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي من لج به.
إنه شرف المقاتل أيضا وإنها لبطولة التي تزجيها الرجولة، والرجولة التي صاغها الإسلام في أحسن تقويم.
ولكن، لماذا عجلنا، وتخطينا الزمن، ورحنا ننشد الأمثلة على بطولة الإمام من أخريات أيامه؟ ألا يحسن بنا أن نستشرف هذه البطولة في بداياتها الرائعة؟ بلى فنرجع مع الزمن إلى وراء، حيث الرسول في مكة يتهيأ للهجرة إلى المدينة التي سبقه إليها أصحابه.
إن خطة الهجرة كما رسمها الرسول، كانت تتطلب أن يأخذ مكانه في البيت رجل تشغل حركته داخل الدار أنظار المحاصرين لها من مشركي قريش، وتخدعهم بعض الوقت عن مخرج الرسول عليه السلام، حتى يكون وصاحبه أبو بكر قد جاوزا منطقة الخطر، وخلفا وراءهما من متاهات الصحراء مسافة تتشتت فيها مطاردة قريش إذا هي خرجت في طلبهما.
ولكن ما مصير هذا الذي سيخلف الرسول في داره، ويخرع قريشا كلها عن مخرجه؟ ما مصيره حين تكتشف قريش الحيلة، وترى كيدها الذي عبأت فيه كل قواها، يرتد، لا هزيمة ماحقة فحسب بل وسخرية. تضحك منها ولدانها، وخزيا يجثم فوق جبينها؟ إن مصيره مفروغ منه. إنه القتل، إذا لم تجد قريش ما هو أشد من القتل تشفيا وفتكا.
والحق أنها ستكون نهاية موحشة، فالرجل الذي سيكتب عليه أن يحمل هذه التضحية، لن يقتل فحسب بل هو سيقتل في بلد موحش، قد خلا من كل أصحابه الذين كانوا بالأمس يملأون فجاجه دويا بالقرآن كدوي النحل.
في هذا البلد الموحش سيقتل وحيدا دون أن يجد من إخوانه من يشجعه ولو من بعيد بنظرة تثبيت أو يودعه ولو من بعيد أيضا بنظرة عطف ومحبة أو يتسلل في جنح الظلام إلى قبره فيقف عليه مسلما.
لا شئ من ذلك سيكون ولا شئ من ذلك سيخفف من وقع النهاية التي ستختارها قريش لمن يمثل دور الرسول عليها حتى يخدعها عنه، وحتى يرد كيدها العاتي ترابا في تراب. فمن أي طراز، سيكون هذا الفدائي العظيم ومن أي ناحية، سيجئ البطل إنه من بيت النبوة يجئ، إنه سليل بني هاشم وتلميذ محمد، إنه ربيب الوحي، وسابق المسلمين، إنه علي يفاجئ قريشا فليسوء على يديه صباحها كما ساء بخروج النبي ممساها.
على أن مهمة علي رضي الله عنه، لم تكن مقصورة على المبيت مكان الرسول والمكر بقريش حتى يغادر الرسول مكة، بل كان لها جانب آخر يتطلب نفس القدر من الفدائية والبذل والتضحية، ذلك هو قيامه برد الأمانات والودائع التي كان الرسول يحتفظ بها لذويها من أهل مكة.
لقد تلقى علي من الرسول كل هذه الودائع وتلقى منه أسماء أصحابها وكان عليه أن يذهب إليهم دارا دارا وفردا فردا ويعطي كل انسان أمانته. دون أن ينيل قريشا منه فرصة تحول بينه وبين إنجاز مهمته كلها.
ولقد قام البطل والرجل بالمهمة على خير وجه، وحفظه الله ورعاه وصدق وعد الرسول له حين قال وهو يودعه: لن يخلص إليك شئ تكرهه منهم.
وبعد أيام ثلاثة، قضاها الفتى الوثيق بمكة، يرد الأمانات إلى ذويها، ركب الصحراء مهاجرا إلى الله ورسوله.
وحده، خرج مجتازا نفس الطريق الذي خرجت عليه قوات قريش تطارد الرسول والصديق، وتطلبهما بكل جهد وثمن. وحده خرج، علي في رباطة جأش تجل عن النظير وفي إيمان مطلق جعل عزمه يتألق مضاء وتهللا. وبعد أيام وليال، كان هناك في قباء ينزل مع الرسول في نفس الدار التي أعدت له عليه السلام. دار كلثوم بن هدم، أخو بني عمرو بن عوف.
وبعد أيام، ينتقل مع الرسول إلى المدينة دار الهجرة وعاصمة العالم الجديد الذي جاء محمد ينشئه ويبنيه على دعائم الإيمان، والحق، والعدل، والرحمة والسلام.
وتجئ غزوة بدر.
ويواجه الإسلام الوثنية في أول لقاء مسلح ينشب بينهما.
ويظهر علي بن أبي طالب، وعمه حمزة رضي الله عنهما من المقدرة والجلد والبطولة ما يبهر الألباب. ثم تجئ غزوة أحد حيث حشدت قريش كل بأسها وقوتها وخرجت لتثأر لقتلاها في يوم بدر، وتنضو عن نفسها عار الهزيمة الماحقة التي أصابتها ذلك اليوم المشهود ويملأ علي أرض المعركة ببطولته وبضحاياه ويسقط اللواء من يد مصعب بن عمير. يسقط بعد أن يبدي بطولة خارقة، ويدعو الرسول عليا ليحمل اللواء.
ويحمل اللواء بيد، ويده الأخرى قابضة على سيفه ذي الفقار هذا السيف الوثيق الذي قال الرسول عنه وعن صاحبه: لا سيف إلا ذو القفار ولا فتى إلا علي.
ولا يكاد ابن أبي طالب يحمل اللواء ويشرئب في يده عاليا، عزيزا، خفاقا حتى يبصره حامل لواء المشركين، فيصيح: ألا هل من مبارز؟
ولا يجيبه من المسلمين أحد فقد كانوا في شغل عنه بالمعركة التي بلغت أقصى عنفوانها، وشدتها، وضراوتها.
وتتكسر السيوف على السيوف، والنصال على النصال.
ويرسل حامل لواء المشركين نعيقه مرة أخرى فينادي: ألستم تزعمون أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار؟ ألا فليخرج إلى أحدكم.
ولم يطق علي صبرا، فصاح به: أنا قادم يا أبا سعد بن أبي طلحة، فابرز يا عدو الله إلي.
والتقيا بين الصفوف الملتحمة تحت وقع السيوف وتبارزا فاختلفا ضربتين ضرية علي ضربة واحدة، فسقط على الأرض يعالج مصرعه ومنيته، وهم علي أن يضربه