شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣٢ - الصفحة ٣٠٦
الثانية ليجهز عليه فتكشفت عورته، أما علي فاستحيا، وغض بصره وانصرف عنه، على النحو الذي أشرنا إليه من قبل.
وبعد انتهاء القتال تقدم النساء المسلمات يداوين الجرحى.
ورأى الرسول عليا وسط مجموعة منهن تكاد تعييهن جراحه الكثيرة، حتى قلن لرسول الله حين رأينه: يا رسول الله! لا نعالج منه جرحا، إلا انفتق جرح.
فاقترب الرسول من جسده المثخن، والشجاع، وراح يسهم في تضميده ويقول:
إن رجلا لقى هذا كله في سبيل الله، لقد أبلى وأعذر.
وانتهت معركة أحد بهزيمة المسلمين بعد أن حققوا على أرضها نصرا عظيما.
وكتب السير والتاريخ تجمع على أن الهزيمة لم تكن نتيجة لتفوق المشركين في قتالهم أو في بلائهم، إنما كانت نتيجة خطأ ارتكبه فريق من المؤمنين، أولئك هم الرماة الذي وكل إليهم الرسول مهمة حماية المؤخرة من فوق قمة الجبل، وأمرهم ألا يغادروا مواقعهم مهما يكن الأمر حتى يأمرهم هو بمغادرتها، بيد أنهم ما كادوا يبصرون قريشا تنهزم وتنسحب قواتها من المعركة مخلفة أسلابها وغنائمها، حتى غادروا مواقعهم ونزلوا إلى أرض القتال يجمعون الغنائم والأسلاب.
هنالك، جمع الجيش المنسحب فلوله، وعاد حثيثا إلى المسلمين وقد انكشفت مؤخرتهم، وفاجأهم بهجوم مباغت وعنيد.
وهكذا تحول النصر إلى هزيمة.
ووعى الدرس كله، والعبرة جميعا حامل لواء المسلمين آنئذ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
لقد ازداد ساعتئذ علما بما كان علمه من قبل: وهو أن دين الله لا ينبغي أن يكون طريقا إلى دنيا وأن الذين يتقدمون ليحملوا كلمة الله ورايته، يجب ألا يشغلهم عنها أسلاب، ولا غنائم، ولا أطماع، ولا مناصب فإن هم فعلوا وكلهم الله إلى أنفسهم، وما أعجز الأنفس حين تفقد رعاية الله وتوفيقه.
حذق علي هذا الدرس جيدا كما حذقه يومئذ أكثر الأصحاب.
وعاش علي عمره كله لا ينساه، فغدا عندما تأتيه الخلافة في فتن كقطع الليل المظلم، ثم عندما تفرض عليه تلك الصدامات المروعة مع معاوية، ومع الخوارج، لن ينس درس أحد أبدا.
لن يضع دين الله موضع مساومة، ولا مزايدة.
كل مغريا السلطان، ومباهج الدنيا، لن تظفر منه بنظرة واحدة ستظل كلتا عينيه على دين الله، لا تتحولان عنه، ولا تغمضان دونه لن يشتري سخط الله برضاء الدنيا بمن فيها.
ولكنه يتقبل سخط الدنيا كلها، والناس أجمعين بلحظة واحدة من رضاء الله رب العالمين.
والآن نتابع البطل في خيبر:
فإمام حصنها المنيع ارتدت أول يوم كتيبة قوية يقودها أبو بكر الصديق.
ثم ارتدت في اليوم الثاني كتيبة أخرى، يقودها عمر بن الخطاب.
لم يجزع الرسول، فما كان هو بالجازع أبدا، وإنما ألقى على الصفوف الحافلة بأصحابه وبجيشه نظرة متفائلة وقال: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما تمنيت الإمارة قط إلا ذلك اليوم، رجاء أن أكون من يحبه الله ورسوله.
أصبح الصباح، وأقبل المسلمون إلى حيث يلتقون برسولهم وكلهم شوق إلى معرفة الرجل الذي سيعطيه الرسول الراية، والذي سيتم على يديه فتح ذلك الحصن الرهيب.
واكتملت أعدادهم، واستوت صفوفهم واشرأبت الأعناق متمنية راجية.
وشق السكون صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أين علي بن أبي طالب؟
كان علي هناك وسط الزحام لم يخطر بباله بومئذ أن يكون هو الرجل الذي وعد الرسول أصحابه، وجعله بشرى الفتح القريب.
لم يخطر هذا الاختيار بباله لسبب، هو أنه في ذلك اليوم كان يشكو رمدا في عينيه، لا يمكنه من العمل الصعب الذي تتطلبه مهمة ذلك اليوم المشهود.
ولكنه لبى نداء الرسول من فوره: ها أنذا، يا رسول الله وأشار الرسول إليه بيمينه ليتقدم منه، فتقدم البطل ورأى الرسول ما بعينه من وجع واهتياج، فبلل أنامله المضيئة بريقه الطهور، ومس بها عين البطل ثم دعا بالراية فأمسكها ورفعها إلى أعلى وهزها ثلاثا، ثم غرسها في يمين علي، وقال: خذ هذه الراية، فامض بها حتى يفتح الله عليك.
دقائق، لعلها لا تجاوز خمسا ولكنها تمثل حياة كاملة لا منتهى لأبعادها، ولا غاية لأمجادها. حمل البطل الراية، وتقدم كتيبته يهرول هرولة وأمام باب الحصن نادى: أنا علي بن أبي طالب. أجل فإنه ليعرف تماما ما هذا الاسم في أفئدة أعداء دينه من رهبة، وما يثيره فيهم من فزع وخذلان.
وتلقى علي ضربة قوية لم تصبه بسوء، لكنها أطارت ترسه من يده.
ورأى نفسه يواجه فرقة مسلحة من حرس الحصن، فصاح: والذي نفسي بيده، لأذوقن ما ذاق حمزة أو ليفتحن الله لي.
رأى سليل بني هاشم نفسه، ولا درع معه فاندفع نحو باب من أباب الحصن ولا يدري الناس عندها ماذا حدث؟
كل ما يذكرون أن عليا صاح الله أكبر ثم التفت نحوهم وباب الحصن بين يديه.
يقول أبو رافع مولى رسول الله، وقد كان ضمن كتيبة علي: لقد هممت أنا وسبعة معي أن نحرك هذا الباب من مكانه على الأرض فما استطعنا.
وهجمت كتيبة الإسلام تحت قيادة بطلها علي وفي وقت وجيز، كانت القوة المنتصرة تردد من شرفات الحصن الذي سقط بكل ما فيه، هتاف القصر.
الله أكبر، خربت خيبر وصدقت نبؤة الرسول التي قالها لابن عمه: خذ هذه الراية، فامض بها حتى يفتح الله عليك. أجل لقد فتح الله عليه، ومنحه النصر المرتجى.
الآن مع البطل في يوم الخندق حيث هوجمت المدينة بأربعة وعشرين ألف مقاتل تحت قيادة أبي سفيان، وعيينة بن حصن.
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام حين حلم بخروجهم وتحركهم صوب المدينة، قد استجاب لرأي سلمان الفارسي بحفر خندق حولها. وحفر الخندق، وفوجئ به جيش الشرك. والنطق من معسكر قريش التي أضناها اقتحام الخندق، نفر من مقاتليها على رأسهم عمرو بن عبد ود وتيمموا لأنفسهم ثغرة في الخندق ينفذون منها، وفعلا وجدوا مكانا ضيفا تقحمته خيولهم.
ووقف هو ومن معه من فرسان قريش، أمام المسلمين، وصاح: من يبارز؟
وفي مثل ومض البرق وجد أمامه البطل. إذ وقف علي أمامه وجها لوجه. وقال: يا عمروا، إنك كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه. فأجابه عمرو: أجل. قال علي: فإني أدعوك إلى الله، ورسوله، وإلى الإسلام قال عمروا: لا حاجة لي إلى ذلك، قال علي: إذن، فأنا أدعوك إلى النزال، قال عمرو: لم يا ابن أخي، فواللات ما أحب أن أقتلك. قال علي: ولكني والله أحب أن أقتلك.