شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣٢ - الصفحة ٣٠٦
رجالا من القوم حللا من البز الذي كان مع علي ابن أبي طالب. فلما دنا جيشه خرج على ليلقاهم فإذا هم عليهم الحلل، فقال: ويحك ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس، فقال: ويلك! انزع من قبل أن تنتهي إلى رسول الله، فانتزع الحلل من الناس وردها في البز، وأظهر الجيش شكاية لما صنع بهم، فقام رسول الله خطيبا فيهم فقال: يا أيها الناس لا تشكوا عليا، فوالله لأخشى في ذات الله أو في سبيل الله.
يعلم مما تقدم أن عليا رضي الله عنه ربي في بيت النبوة وكان أسبق الناس إلى الإسلام ونشأ وقد أشربت روحه بتعاليمه، وشب على الصلاح ورأى الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان من كتابه لكن لم يبلغنا متى وكيف وممن تعلم القراءة والكتابة؟ وهو الذي كتب بخطه ما أملاه عليه رسول الله من صلح الحديبية، وقد خالط الرسول وعاشره وحفظ القرآن وسمع الحديث ورواه وتفقه في الدين.
وقد كان رضي الله عنه شجاعا بطبعه، فهو من سلالة أبطال شجعان.
وقضى زهرة شبابه في الدفاع عن رسول الله ونشر لواء الإسلام، وتثبيت دعائمه غير هياب ولا وجل. وكلما راجعنا غزوات رسول الله وجدنا اسم علي مقرونا بها، فتارة نجد يحمل اللواء، وتارة يفرق جموع الأعداء ويلم شمل المجاهدين، ويبارز أبطال القريش، أعداء الإسلام فيصرعهم ويفتح الحصون المستعصية، ويهدم الأصنام، وهو صاحب الفضل في دخول همدان في الإسلام، وهي قبيلة كبيرة في اليمن، حتى خرج رسول الله ساجدا شكرا لله على إسلامها. إصابته رضي الله عنه يوم أحد ست عشرة ضربة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه فزوجه ابنته فاطمة بنت السيدة خديجة رضي الله عنها، وكان يشفق عليه إذا مرض، وقد تقدمت الإشارة إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شفاه مما ألم من الوجع والجروح بسبب كثرة المشي عليهما وشفاه من الرمد.
وقال الفاضل المعاصر خالد محمد خالد في كتابه " في رحاب علي عليه السلام " (ص ٧١ ط دار المعارف بمصر ودار المعارف بلبنان):
ذات يوم، والرسول بالمدينة، نزل عليه الوحي بآية جديدة من القرآن، وراح الرسول يتلوها على أصحابه وهم منصتون: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا، وسيجزي الله الشاكرين)، وأحدثت الآية في أفئدة الصحابة رد فعل قويا، وظن بعضهم أنها تنعى إليهم نبيبهم عليه الصلاة والسلام.
وصاح علي بن أبي طالب: ولله لا ننقلب على أعقابنا بعد أن هدانا الله، ولئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت.
وطوال عمر علي في حياة الرسول وبعد وفاته، وهذه الآية لا تبارح ذاكرته وإنها لتلح على وجدانه إلحاحا دائبا وعجيبا.
فهو دائما يذكرها فيتلوها، ويتبع تلاوته لها بكلماته التي سمعناها الآن: والله، لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، ولئن مات أو قتل، لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت.
ولكن لماذا اختار القتال سبيلا للتعبير عن ولائه للدين، وإصراره على متابعة طريق الرسول؟ لماذا لم يقل: ولئن مات أو قتل لأواصلن السير على نهجه، والاهتداء بسنته وهديه؟
إن طبيعة المقاتل تحتل كل ذرة في كيانه، فإذا أعطى العهد على مواصلة السير تحت الراية التي يرفعها الرسول بيمينه، فإنه يصوغ عهده من الكلمات التي تتسق مع طبيعته وتعبر عنها في أمانة وصدق. وأي كلمة تعبر عن طبيعة المقاتل سوى كلمة سأقاتل؟
صحيح أن الآية نزلت في معركة دائرة، وقتال مشبوب في غزوة أحد أو بعدها، والمشركون يومئذ يرجفون بأن الرسول قتل فنزلت الآية تسفه أحلامهم، وتشد عزم المسلمين، وتخبرهم بأنه حتى لو مات الرسول أو استشهد، فإن رايته لن تسقط، ودينه لن يتقهقر، وجنده لن يضعوا السلاح.
فلئن كانت طبيعة المناسبة، تجعل الرد على تساؤل الآية: سنقاتل فإن طبيعة المقاتل هي التي جعلت كلمة سأقاتل شعار حياة بأسرها، وليست شعار مناسبة بذاتها.
وهكذا رأينا الإمام طوال حياته المديدة والمجيدة، لا يفتأ يذكر الآية الكريمة فيتلوها، ثم يعقب عليها بنشيده ذاك: ولئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت.
قلنا: إن عليا يحمل بين جنبيه طبيعة المقاتل وسجاياه. فهل هذه منقبة توضع في ميزان فضائله، ومزاياه؟ وبتعبير آخر: هل وجود طبيعة المقاتل في انسان أمر يشرف ذلك الانسان؟ أما بالنسبة لابن أبي طالب، فنعم.
إن كون طبيعة المقاتل في أعماقه، لمما يزيده شرفا، ورفعة، وكمالا. ذلك أن طبيعة المقاتل فيه قد بلغت من الاستقامة، ومن العدالة، ومن الشرف، المدى الذي أفاءه عليها القرآن، والرسول والإسلام. فهي عند الإمام لا تمثل عدوانا ولا تشكل بهتانا ولا تنطلق وقودا لأغراض الدنيا، وأطماع النفس.
وهي بهذا، ولهذا، تجاوز نفسها إلى أعلى مستويات البطولة. كما أن البطولة عنده وظيفة تحمل أسمى تبعات الرجولة. والرجولة عنده ليست اندفاعا عرمرما تزجيه طاقاته الجبارة إنما هي التزام يكاد يكون مطلقا لمنهج الرسول الذي آمن به، والدين الذي حمل رايته.
وهكذا نرى البطل والمسلم يلتقون في شخصية الإمام علي أصدق لقاء.
أجل لم ينفصم البطل، عن الرجل، عن المسلم، في حياة علي أبدا.
فإذا رأيناه يبارز خصما مثلا، فليس البطل المتمكن هو وحده الذي يبارز بل إن رجولة الرجل، وورع المسلم هما اللذان يرسمان للبطل أسلوب المبارزة وآدابها.
انظروا في غزوة أحد يخرج من صفوف المشركين أحد مبارزيهم الأشداء هو أبو سعد بن أبي طلحة، وينادي عليا ليبارز ويخرج علي إليه ويتلاقان في مبارزة ضاربة حامية ويتمكن منه سيف على بضربة تطرحه أرضا، وهو يتلوى من الألم.
وبينما علي يتهيأ ليجهز عليه بضربة قاضية ينحسر جلباب الرجل فتنكشف عورته، فيغمض علي عينيه، ويغض بصره ويثني إليه سيفه ويعود إلى مكانه في الصف.
ويسأله المسلمون: لماذا لم تجهز عليه؟ ويجيبهم: لقد استقبلني بعورته، فعطفتني الرحم.
إن شرف المقاتل خلق لا ينساه علي أمام النصر، وأمجاد الظفر. ولقد عرف عنه ذلك دائما، فراح أعداؤه يلمسون هذا الوتر كلما رأوا المنايا تهوى عليهم من سيفه الوثيق.
إن الأبطال الأصلاء العظماء، لا ينشدون النصر مجرد النصر. إنما هم ينشدون النصر عفا، شريفا، عادلا فإذا لم يأتهم النصر موشى بهذه الفضائل، فلا خفقت راياته، ولا دقت طبوله.