شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣٢ - الصفحة ٣٠٦
كان ينام مكانه، أوسعوه ضربا وحبسوه في المسجد وأقاموا عليه الحراس والأرصاد.
وقد عبر شاعر مصري عن هذا بقوله:
ولن ينسى النبي له صنيعا * عشية ودع البيت الحراما عشية سامه في الله نفسا * لغير الله تكبر أن تساما فأرخصها فدى لأخيه لما * تسجى في حظيرته وناما وأقبلت الصوارم والمنايا * لحرب الله تنتحم انتحاما فلم يأبه لها أنفا علي * ولم تقلق بجفنيه مناما وأعشى الله أعينهم فراحت * ولم تر ذلك البدر التماما وقد عرف منه رضي الله عنه أنه ما صارع أحدا إلا صرعه، وأنه كان جريئا على الموت. فقد ورد أنه بارز عمرو بن عبد ود - فارس الجزيرة العربية - وهو لا زال حدثا في سنه، وكان هذا أيام وقعة الخندق عندما برز ابن ود مزهوا بقوته ينادي في المسلمين: من يبارز؟ فهتف علي: أنا له يا رسول الله، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول له: اجلس إنه عمرو، ولكن الرجل المزهو عاد يصيح: من يبارز؟
وراح يهزأ بالمسلمين قائلا: أين جنتكم التي زعمتم أنكم داخلوها، أجبنتم أفلا يبرز لي منكم رجل؟ فكان علي ينهض المرة بعد الأخرى وهو يكرر في حماس: أنا له يا رسول الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يشفق عليه ويقول له: اجلس إنه عمرو، ولكنه ظل بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى أذن له فلما تقدم نحو عمرو سخر منه وهو يكتسحه بنظرات الاستصغار قائلا له: من أنت؟ فيجيبه بعزة ورجولة: أنا علي. فيقول له عمرو: أنت ابن عبد مناف؟ فيقول علي بن أبي طالب، فأقبل عمرو عليه مشفقا وقائلا: يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك وإني أكره أن أهريق دمك.
فقال له علي: ولكني والله لا أكره أن أهريق دمك، ولكني أذكرك يا عمرو بما ينفعك ويعصم دمك، إنك كنت تعاهد قومك ألا يدعوك رجل من قريش إلى خلتين إلا أخذت منه أحسنها. قال عمروا أجل.
فقال علي: فإني أدعوك إلى الإسلام أو إلى النزال.
فقال عمرو مستصغرا لشأن علي: ولم يا ابن أخي فوالله ما أحب أن أقتلك. ثم غضب وأهوى بسيفه عليه يريد أن يذهب به بضربة واحدة.
ولكن عليا راوغه وما زال به حتى خر الرجل صريعا تحت قدميه، فكبر المسلمون تكبيرة تفيض بنشوة النصر، ثم استقبلوا عليا مهللين مكبرين.
وعندما علمت ابنة عمرو بقتله سألت عن قاتله، فلما علمت أنه علي وجدت عزاءها في أن الذي قتله فتى لا يشق لشجاعته غبار.
وذهبت ترثيه شعرا فتقول:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله * بكيته أبدا ما دمت في الأبد لكن قاتله من لا نظير له * وكان يدعي أبوه بيضة البلد وقد خاض علي المعارك كلها إلى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان على شجاعته لا يبدأ أحدا بقتال، وكان يأمر جنده أن لا يجهزوا على جريح ولا يقتلوا رجلا استسلم أو هرب موليا، وفي وقعة الجمل كان يصلي على الموتى من أعدائه.
وقال الفاضل المعاصر الأستاذ عباس محمود العقاد في " المجموعة الكاملة - العبقريات الإسلامية " (ج ٢ ص ١٨ ط دار الكتاب اللبناني - بيروت):
فكانت شجاعته من الشجاعات النادرة التي يشرف بها من يصيب بها ومن يصاب، ويزيدها تشريفا أنها ازدانت بأجمل الصفات التي تزين شجاعة الشجعان الأقوياء فلا يعرف الناس حلية للشجاعة أجمل من تلك الصفات التي طبع عليها علي بغير كلفة ولا مجاهدة رأي وهي التورع عن البغي، والمروءة مع الخصم قويا أو ضعيفا على السواء، وسلامة الصدر من الضغن على العدو بعد الفراغ من القتال.
فمن تورعه عن البغي، مع قوته البالغة وشجاعته النادرة، إنه لم يبدأ أحدا قط بقتال وله مندوحة عنه، وكان يقول لابنه الحسن: لا تدعون إلى مبارزة، فإن دعيت إليها فأجب، فإن الداعي إليها باغ والباغ مصروع.
وعلم أن جنود الخوارج يفارقون عسكره ليحاربوه، وقيل له: إنهم خارجون عليك فبادرهم قبل أن يبادروك، فقال: لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسيفعلون.
وكذلك فعل قبل وقعة الجمل، وقبل وقعة صفين، وقبل كل وقعة صغرت أو كبرت ووضح فيها عداء العدو أو غمض: يدعوهم إلى السلم وينهى رجاله عن المبادأة بالشر، فما رفع يده بالسيف قط إلا وقد بسطها قبل ذلك للسلام.
كان يعظ قوما فبهرت عظته بعض الخوارج الذين يكفرونه، فصاح معجبا إعجاب الكاره الذي لا يملك بغضه ولا إعجابه: قاتله الله كافرا ما أفقهه، فوثب أتباعه ليقتلوه فنهاهم عنه، وهو يقول: إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب.
وقد رأينا أنه كان يقول لعمرو بن عبد ود: إني لا أكره أن أهريق دمك، ولكنه على هذا لم يرغب في إهراق دمه إلا بعد يأس من إسلامه ومن تركه حرب المسلمين، فعرض عليه أن يكف عن القتال فأنف، وقال: إذن تتحدث العرب بفراري، وناشده:
يا عمرو، إنك كنت تعاهد قومك ألا يدعوك رجل من قريش إلى خلتين إلا أخذت منه إحداهما. قال: أجل. قال: فإني أدعوك إلى الإسلام أو إلى النزال. قال: ولم يا بن أخي؟ فوالله ما أحب أن أقتلك، فلم يكن له بد بعد ذلك من إحدى اثنتين: أن يقتله أو يقتل على يديه.
وعلى ما كان بينه وبين معاوية وجنوده من اللدد في العداء لم يكن ينازلهم ولا يأخذ من ثاراته وثارات أصحابه عندهم إلا بمقدار ما استحقوه في موقف الساعة:
فاتفق في يوم صفين أن خرج من أصحاب معاوية رجل يسمى كريز بن الصباح الحميري فصاح بين الصفين: من يبارز؟ فخرج إليه رجل من أصحاب علي فقتله ووقف عليه ونادى: من يبازر؟ فخرج إليه آخر فقتله وألقاه على الأول، ثم نادى: من يبارز؟ فخرج إليه الثالث فصنع به صنيعه بصاحبه، ثم نادى رابعة: من يبارز؟ فأحجم الناس ورجع من كان في الصف الأول إلى الصف الذي يليه، وخاف في أن يشيع الرعب بين صفوفه فخرج إلى ذلك الرجل المدل بشجاعته وبأسه فصرعه ثم نادى نداءه حتى أتم ثلاثة صنع بهم صنيعه بأصحابه، ثم قال مسمعا الصفوف: يا أيها الناس! إن الله عز وجل يقول: (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص)، ولو لم تبدؤونا ما بدأناكم، ثم رجع إلى مكانه.
وقد كان مدار هذا الخلق في ابن أبي طالب على ثقة أصيلة فيه لم تفارقه منذ حبا ودرج، وقبل أن يبلغ مبلغ الرجال. فما منعته الطفولة الباكرة يوما أن يعلم إنه شئ في هذه الدنيا وإنه قوة لها جوار يركن إليه المستجير. ولقد كان في العاشرة أو نحوها يوم أحاط القروم القرشيون بالنبي عليه السلام ينذرونه وينكرونه وهو يقلب عينه في