رتبهم فجعل الثاني أصلح حالا من الأول، والثالث أصلح حالا من الثاني، وكذلك الرابع والخامس والسادس والسابع والثامن، قال: ومما يدلك على أن المسكين أصلح حالا من الفقير أن العرب قد تسمت به ولم تتسم بفقير لتناهي الفقر في سوء الحال، ألا ترى أنهم قالوا تمسكن الرجل فبنوا منه فعلا على معنى التشبيه بالمسكين في زيه، ولم يفعلوا ذلك في الفقير إذ كانت حاله لا يتزيا بها أحد؟ قال: ولهذا رغب الأعرابي الذي سأله يونس عن اسم الفقير لتناهيه في سوء الحال، فآثر التسمية بالمسكنة أو أراد أنه ذليل لبعده عن قومه ووطنه، قال: ولا أظنه أراد إلا ذلك، ووافق قول الأصمعي وابن حمزة في هذا قول الشافعي، وقال قتادة: الفقير الذي به زمانة، والمسكين الصحيح المحتاج. وقال زيادة الله بن أحمد: الفقير القاعد في بيته لا يسأل، والمسكين الذي يسأل، فمن ههنا ذهب من ذهب إلى أن المسكين أصلح حالا من الفقير لأنه يسأل فيعطى، والفقير لا يسأل ولا يشعر به فيعطى للزومه بيته أو لامتناع سؤاله، فهو يتقنع بأيسر شئ كالذي يتقوت في يومه بالتمرة والتمرتين ونحو ذلك ولا يسأل محافظة على ماء وجهه وإراقته عند السؤال، فحاله إذا أشد من حال المسكين الذي لا يعدم من يعطيه، ويشهد بصحة ذلك قوله، صلى الله عليه وسلم: ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، وإنما المسكين الذي لا يسأل ولا يفطن له فيعطى، فأعلم أن الذي لا يسأل أسوأ حالا من السائل، وإذا ثبت أن الفقير هو الذي لا يسأل وأن المسكين هو السائل فالمسكين إذا أصلح حالا من الفقير، والفقير أشد منه فاقة وضرا، إلا أن الفقير أشرف نفسا من المسكين لعدم الخضوع الذي في المسكين، لأن المسكين قد جمع فقرا ومسكنة، فحاله في هذا أسوأ حالا من الفقر، ولهذا قال، صلى الله عليه وسلم: ليس المسكين (الحديث) فأبان أن لفظة المسكين في استعمال الناس أشد قبحا من لفظة الفقير، وكان الأولى بهذه اللفظة أن تكون لمن لا يسأل لذل الفقر الذي أصابه، فلفظة المسكين من هذه الجهة أشد بؤسا من لفظة الفقير، وإن كان حال الفقير في القلة والفاقة أشد من حال المسكين، وأصل المسكين في اللغة الخاضع، وأصل الفقير المحتاج، ولهذا قال، صلى الله عليه وسلم: اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين، أراد به التواضع والإخبات وأن لا يكون من الجبارين المتكبرين أي خاضعا لك يا رب ذليلا غير متكبر، وليس يراد بالمسكين هنا الفقير المحتاج. قال محمد بن المكرم: وقد استعاذ سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الفقر، قال: وقد يمكن أن يكون من هذا قوله سبحانه حكاية عن الخضر، عليه السلام: أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر، فسماهم مساكين لخضوعهم وذلهم من جور الملك الذي يأخذ كل سفينة وجدها في البحر غصبا، وقد يكون المسكين مقلا ومكثرا، إذ الأصل في المسكين أنه من المسكنة، وهو الخضوع والذل، ولهذا وصف الله المسكين بالفقر لما أراد أن يعلم أن خضوعه لفقر لا لأمر غيره بقوله عز وجل: يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة، والمتربة: الفقر، وفي هذا حجة لمن جعل المسكين أسوأ حالا لقوله ذا متربة، وهو الذي لصق بالتراب لشدة فقره، وفيه أيضا حجة لمن جعل المسكين أصلح حالا من الفقير لأنه أكد حاله بالفقر، ولا يؤكد الشئ إلا بما هو أوكد منه. قال ابن الأثير: وقد تكرر ذكر المسكين والمساكين والمسكنة والتمسكن، قال: وكلها يدور معناها على الخضوع
(٢١٦)