أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال، فلم يترك له سبد فأثبت أن للفقير حلوبة وجعلها وفقا لعياله، قال: وقول مالك في هذا كقول يونس. وروي عن الأصمعي أنه قال: المسكين أحسن حالا من الفقير، وإليه ذهب أحمد بن عبيد، قال: وهو القول الصحيح عندنا لأن الله تعالى قال: أما السفينة فكانت لمساكين، فأخبر أنهم مساكين وأن لهم سفينة تساوي جملة، وقال للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض: يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا، فهذه الحال التي أخبر بها عن الفقراء هي دون الحال التي أخبر بها عن المساكين. قال ابن بري: وإلى هذا القول ذهب علي بن حمزة الأصبهاني اللغوي، ويرى أنه الصواب وما سواه خطأ، واستدل على ذلك بقوله: مسكينا ذا متربة، فأكد عز وجل سوء حاله بصفة الفقر لأن المتربة الفقر، ولا يؤكد الشئ إلا بما هو أوكد منه، واستدل على ذلك بقوله عز وجل: أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر، فأثبت أن لهم سفينة يعملون عليها في البحر، واستدل أيضا بقول الراجز:
هل لك في أجر عظيم تؤجره، تغيث مسكينا قليلا عسكره، عشر شياه سمعه وبصره، قد حدث النفس بمصر يحضره.
فأثبت أن له عشر شياه، وأراد بقوله عسكره غنمه وأنها قليلة، واستدل أيضا ببيت الراعي وزعم أنه أعدل شاهد على صحة ذلك، وهو قوله:
أما الفقير الذي كانت حلوبته لأنه قال: أما الفقير الذي كانت حلوبته ولم يقل الذي حلوبته، وقال:
فلم يترك له سبد، فأعلمك أنه كانت له حلوبة تقوت عياله، ومن كانت هذه حاله فليس بفقير ولكن مسكين، ثم أعلمك أنها أخذت منه فصار إذ ذاك فقيرا، يعني ابن حمزة بهذا القول أن الشاعر لم يثبت أن للفقير حلوبة لأنه قال: الذي كانت حلوبته، ولم يقل الذي حلوبته، وهذا كما تقول أما الفقير الذي كان له مال وثروة فإنه لم يترك له سبد، فلم يثبت بهذا أن للفقير مالا وثروة، وإنما أثبت سوء حاله الذي به صار فقيرا، بعد أن كان ذا مال وثروة، وكذلك يكون المعنى في قوله:
أما الفقير الذي كانت حلوبته.
أنه أثبت فقره لعدم حلوبته بعد أن كان مسكينا قبل عدم حلوبته، ولم يرد أنه فقير مع وجودها فإن ذلك لا يصح كما لا يصح أن يكون للفقير مال وثروة في قولك: أما الفقير الذي كان له مال وثروة، لأنه لا يكون فقيرا مع ثروته وماله فحصل بهذا أن الفقير في البيت هو الذي لم يترك له سبد بأخذ حلوبته، وكان قبل أخذ حلوبته مسكينا لأن من كانت له حلوبة فليس فقيرا، لأنه قد أثبت أن الفقير الذي لم يترك له سبد، وإذا لم يكن فقيرا فهو إما غني وإما مسكين، ومن له حلوبة واحدة فليس بغني، وإذا لم يكن غنيا لم يبق إلا أن يكون فقيرا أو مسكينا، ولا يصح أن يكون فقيرا على ما تقدم ذكره، فلم يبق أن يكون إلا مسكينا، فثبت بهذا أن المسكين أصلح حالا من الفقير، قال علي بن حمزة: ولذلك بدأ الله تعالى بالفقير قبل من تستحق الصدقة من المسكين وغيره، وأنت إذا تأملت قوله تعالى: إنما الصدقات للفقراء والمساكين، وجدته سبحانه قد