فعمد أخيرا هارون الرشيد إلى اعتقاله وزجه في ظلمات المطامير وزوايا السجون بعدما أشخصه من مدينة جده إلى العراق، وحبسه في البصرة ثم في بغداد سنين متمادية يعاني فيها الحرمان والاضطهاد والتعسف والآلام ويتجرع الغصص والخطوب، ولم يؤثر عنه أنه أبدى أي تذمر أو شكوى، أو جزع مما ألم به، وإنما كان العكس من ذلك، تراه يبدي شكره لخالقه، الذي طالما دعاه أن يفرغه لعبادته، وانقطاعه لطاعته.
وإذا استعرضنا جانبا من حياة إمامنا المفدى (عليه السلام) فإننا نجد أنفسنا أمام تراث زاخر ضخم، ونفس مشرق يفيض بالخير والجمال، يحمل العطاء السخي، والتوجيه الصائب للأمة.
كما قام إمامنا الفذ (عليه السلام) بإدارة شؤون الجامعة العلمية بعد أبيه الإمام الصادق (عليه السلام) التي أسسها بعد أبيه، والتي تعتبر أول مؤسسة ثقافية في الإسلام، وأول معهد تخرجت عليه كوكبة من فطاحل العلماء، منهم أصحابه والرواة عنه وتلاميذه، ومنهم أئمة المذاهب الإسلامية، وامتد إشعاعها إلى العصور الصاعدة، وهي تحمل روح الإسلام وهديه.
أما عبادته وتهجده فقد أجمع المؤرخون والمترجمون له أنه كان من أعظم الناس طاعة، وأكثرهم عبادة لله تعالى، فكانت له ثفنات كثفنات البعير في مواقع سجوده من كثرة السجود، كما كانت لجده الإمام السجاد زين العابدين (عليه السلام) من قبل، حتى لقب بذي الثفنات، وقد بهر أعداءه قبل مواليه، وبهر العقول بكثرة علمه، وصبره وعبادته وتهجده حينما كان في السجن، فكان يصوم نهاره، ويقوم ليله ساهرا في محراب عبادته لله.
وقد أدلى هارون الرشيد عندما شاهده في سجن الفضل بن الربيع بحديث