بسم الله الرحمن الرحيم من الوالد الفان، المقر للزمان، المدبر العمر، المستسلم للدهر. الذام للدنيا، الساكن مساكن الموتى، والظاعن عنها غدا.
إلى المولود المؤمل ما لا يدرك، السالك سبيل من قد هلك، غرض الأسقام، ورهينة الأيام، ورمية المصائب، وعبد الدنيا، وتاجر الغرور، وغريم المنايا، وأسير الموت، وحليف الهموم، وقرين الأحزان، ونصب الآفات، وصريع الشهوات، وخليفة الأموات.
أما بعد، فإن فيما تبينت من إدبار الدنيا عني، وجموح الدهر علي، وإقبال الآخرة إلي، ما يزعني (1) عن ذكر من سواي، والاهتمام بما ورائي، غير أني حيث تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي، فصدفني رأيي، وصرفني عن هواي، وصرح لي محض أمري، فأفضى بي إلى جد لا يكون فيه لعب، وصدق لا يشوبه كذب. ووجدتك بعضي، بل وجدتك كلي حتى كأن شيئا لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي، فكتبت إليك مستظهرا به إن أنا بقيت لك أو فنيت.
فإني أوصيك بتقوى الله - أي بني - ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره، والاعتصام بحبله. وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين الله إن أنت أخذت به؟!
أحي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوه باليقين، ونوره بالحكمة، وذلله بذكر الموت، وقرره بالفناء، وبصره فجائع الدنيا، وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الليالي والأيام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكره بما أصاب من كان