الثالث: قال ابن القيم: وأما هدية - عليه الصلاة والسلام - في الشراب فمن أكمل هدي يحفظ به الصحة، فإن الماء إذا جمع وصفي مع الحلاوة والبرودة كان من أنفع شئ للبدن، ومن أكبر أسباب الصحة، وللأرواح والقوى والكبد والقلب عشق شديد له واستمداد منه والماء البارد رطب يقمع الحرارة ويحفظ على البدن رطوبته الأصلية، ويرد عليه بدل ما تحلل منها، ويرقق الغذاء وينفذه في العروق وإذا كان باردا أو خالطه ما يحليه كالعسل أو الزبيب أو التمر أو السكر كان من أنفع ما يدخل البدن ويحفظ عليه صحته، والماء الفاتر ينفخ ويفعل ضد هذه الأشياء، والبائت أنفع من الذي يشرب وقت استقائه، فإن الماء البائت بمنزلة العجين الخمير، والذي يشرب لوقته بمنزلة الفطير.
وكان من هديه - عليه الصلاة والسلام - الشرب قاعدا، لأن في الشرب قائما آفات عديدة، [منها أنه لا يحصل به الري التام، ولا يستقر في المعدة حتى يقسمه الكبد على الأعضاء] (1) فينزل بسرعة واحدة إلى المعدة فيخشى منه أن يبرد حرارتها، ويسرع النفوذ إلى أسافل البدن بغير تدريج، وكل هذا يضر بالشارب، وأما الشرب منبطحا فالأطباء تكاد تحرمه ويقولون لأنه يضر بالمعدة.
وكان من هدية - صلى الله عليه وسلم - أنه يشرب في ثلاث أنفاس، وفي هذا الشرب حكم جمة وفوائد مهمة، وقد نبه - عليه الصلاة والسلام - على مجامعها لقوله إنه أروى وأمرأ وأبرأ.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يشرب نقيع التمر يلطف به كيموسات الأغذية الشديدة، وله نفع عظيم في زيادة القوة وحفظه الصحة.
وكان يشرب اللبن خالصا تارة ومشوبا بالماء أخرى وله أخري وله نفع عظيم في حفظ الصحة، وترطيب البدن، وري الكبد، ولا سيما اللبن الذي يرعي دوابه والقيصوم والخزامي وما أشبهها فإن لبنها غذاء من الأغذية، وشراب مع الأشربة، ودواء مع الأدوية.
وكان يشرب العسل الممزوج بالماء البارد وفي هذا من حفظ الصحة ما لا يهتدى إلى معرفته إلا أفاضل الأطباء، فإن شربه ولعقه على الريق يذيب البلغم ويغسل خمل المعدة، ويجلو لزوجتها، ويدفع عنها الفضلات ويسخنها، ويفتح سددها، ويفعل مثل ذلك بالكبد والكلى والمثانة وهو أنفع للمعدة من كل حلو دخلها وإنما يضر بالعرض لصاحب الصفراء لحدته ودفع مضرته بالخل، قوله (فإنه أروى): أشد ريا فأبلغه وأنفعه، وأبرأ: أفعل من البرء وهو الشفاء أن يبرأ من شدة العطش ودائه لتردده على المعدة الملتهبة دفعات فتسكن الدفعة الثانية ما