إذا لم يكونوا على دين واحد، لم يكن بينهم توارث ولا ولاية.
قال: ويستفاد من هذا أن الرحم المأمور بصلتها، والمتوعد على قطعها، هي التي شرع لها ذلك فأما من أمر بقطعه من أجل الدين فيستثنى من ذلك ولا يلحق بالوعيد من قطعه، لأنه قطع من أمر الله بقطعه لكن لو وصلوا بما يباح من أمر الدنيا لكان فضلا، كما دعا (صلى الله عليه وسلم) لقريش بعد أن كانوا كذبوه فدعا لهم. قلت: ويتعقب كلامه في موضعين:
أحدهما: يشاركه فيه كلام غيره، وهو قصره النفي على من ليس على الدين، وظاهر الحديث أن من كان غير صالح في أعمال الدين دخل في النفي أيضا لتقييده الولاية بقوله: (وصالح المؤمنين).
والثاني: أن صلة الرحم الكافر، ينبغي تقيدها بما إذا أيس منه رجوعا عن الكفر، أو رجى أن يخرج من صلبه مسلم كما في الصورة التي استدل بها، وهي دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) لقريش بالخصب، وعلل بنحو ذلك، فيحتاج من يترخص في صلة رحمه الكافر أن يقصد إلى شئ من ذلك وأما من كان على الدين ولكنه مقصر في الأعمال مثلا فلا يشارك الكافر في ذلك.
وقد وقع في (شرح المشكاة): المعنى أني لا أوالي أحدا بالقرابة، وإنما أحب الله تعالى لما له من الحق الواجب على العباد، وأحب صالح المؤمنين لوجه الله تعالى، وأوالي من أوالي بالإيمان والصلاح - سواء كان من ذوي رحم أو لا، ولكني أرعى لذوي الرحم حقهم لصلة الرحم.
وقد اختلف أهل التأويل في المراد بقوله تعالى: (وصالح المؤمنين) على أقوال: أحدها: الأنبياء، أخرجه الطبري - وابن أبي حاتم عن قتادة، وذكره ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري، وأخرجه النقاش عن العلاء بن زياد.
الثاني: الصحابة، أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي، ونحوه في تفسير الكلبي، قال: هم أبو بكر، وعمر وعثمان وعلي، وأشباههم ممن ليس بمنافق.
الثالث: خيار المؤمنين، أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك.
الرابع: أبو بكر، وعمر، وعثمان، أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري.
الخامس: أبو بكر، وعمر، أخرجه الطبري وابن مردويه، عن ابن مسعود مرفوعا، وسنده ضعيف. وأخرجه الطبري وابن أبي حاتم عن الضحاك أيضا، وكذا هو في تفسير عبد الغني بن سعيد الثقفي أحد الضعفاء بسنده عن ابن عباس موقوفا، وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر ضعيف عنه كذلك. قال ابن أبي حاتم: وروى عن عكرمة، وسعيد بن جبير، وعبد الله بن بريدة، ومقاتل ابن حبان كذلك.
السادس: أبو بكر خاصة، ذكره القرطبي عن المسيب بن شريك.
السابع: عمر خاصة، أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير، وأخرجه الطبري بسند ضعيف عن مجاهد، وأخرجه ابن مردويه بسند واه جدا عن ابن عباس.
الثامن: علي، أخرجه ابن أبي حاتم بسند منقطع عن علي نفسه مرفوعا، وأخرجه الطبري بسند ضعيف عن مجاهد، قال: هو علي.
وأخرجه ابن مردويه بسندين ضعيفين من حديث أسماء بنت عميس مرفوعا قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: صالح المؤمنين علي بن أبي طالب. ومن طريق أبي مالك عن ابن عباس مثله موقوفا، وفي سنده راو ضعيف.
وذكره النقاش عن ابن عباس، ومحمد بن علي الباقر، وابن جعفر بن محمدالصادق، قلت: فإن ثبت هذا، ففيه دفع توهم من توهم أن في الحديث المرفوع نقصا من قدر علي رضي الله عنه، ويكون المنفي أبا طالب ومن مات من آله كافرا، والمثبت من كان منهم مؤمنا، وخص علي بالذكر لكونه رأسهم، وأشير بلفظ الحديث إلى لفظ الآية المذكورة، ونص فيها على علي تنويها بقدره، ودفعا لظن من يتوهم عليه في الحديث المذكور غضاضة، ولو تفطن من كنى عن أبي طالب لذلك لاستغنى عما صنع.
قوله: " وزاد عنبسة بن عبد الواحد "، أي ابن أمية بن عبد الله بن سعيد بن العاص بن أبي أحيحة بمهملتين مصغرا، وهو سعيد بن العاص بن أمية، وهو موثوق عندهم، وما له في البخاري سوى هذا الموضوع المعلق، وقد وصله البخاري في كتاب البر والصلة فقال: حدثنا محمد بن عبد الواحد بن عنبسة، حدثنا جدي... فذكره، وأخرجه الإسماعيلي من رواية نهد بن سليمان عن محمد بن عبد الواحد المذكور، وساقه بلفظ: سمعت عمرو بن العاص يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينادي جهرا غير سر: إن بني فلان ليسوا بأوليائي، وإنما ولي الله والذين آمنوا، ولكن لهم رحم... الحديث وقد قدمت رواية الفضل، وإنما الفضل ابن الموفق عن عنبسة من عند أبي نعيم، وأنها أخص من هذا.
قوله (صلى الله عليه وسلم): " ولكن لها رحم أبلها ببلالها، يعني أصلها بصلتها "، كذا لهم، لكن سقط التفسير من رواية النسفي، ووقع عند أبي ذر بعده " أبلها ببلالها " وبعده في الأصل: كذا وقع، وببلالها أجود وأصح.
قال الخطابي وغيره: بللت الرحم بلا وبللا وبلالا، أي نديتها بالصلة، وقد أطلقوا على الإعطاء الندى، وقالوا في البخيل: ما تندى كفه بخير، فشبهت قطيعة الرحم بالحرارة، ووصلها بالماء الذي يطفئ ببرده الحرارة، ومنه الحديث: بلوا أرحامكم ولو بالسلام.
وقال الطيبي وغيره: شبه الرحم بالأرض التي إذا وقع عليها الماء وسقاها حتى إذا سقيها أزهرت ورؤيت فيها النضارة، فأثمرت المحبة والصفاء، وإذا تركت بغير سقي يبست وبطلت منفعتها، فلا تثمر إلا البغضاء والجفاء، ومنه قولهم سنة جماد لا مطر فيها، وناقة جماد أي لا لبن فيها.
وجوز الخطابي أن يكون معنى قوله: أبلها بلالها، في الآخرة، أي أشفع لها يوم القيامة، وتعقبه الداودي بأن سياق الحديث يؤذن بأن المراد ما يصلهم به في الدنيا، ويؤيده ما أخرجه مسلم من طريق موسى بن طلحة عن أبي هريرة قال: لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين) دعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قريشا فاجتمعوا، فعم وخص - إلى أن قال -: يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئا، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها، وأصله عند البخاري بدون هذه الزيادة.
وقال الطيبي: في قوله: " ببلالها " مبالغة بديعة، وهي مثل قوله تعالى: (إذا زلزلت الأرض زلزالها) أي زلزالها الشديد الذي لا شئ فوقه، فالمعنى: أبلها بما اشتهر وشاع، بحيث لا أترك منه شيئا. (فتح الباري): ١٠ / ٥١٣ - ٥١٨ مختصرا.
وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (93) موالاة المؤمنين ومقاطعة غيرهم والبراء منهم، حديث رقم (215).